قضايا وآراء

كيف كسرت ثورة يناير هيبة السلطة في مصر؟

طارق الزمر
"جاءت الثورة المصرية في صورة تجمع بشري هائل، سلمي، مفتوح، بلا قيادة واضحة"- الأناضول
"جاءت الثورة المصرية في صورة تجمع بشري هائل، سلمي، مفتوح، بلا قيادة واضحة"- الأناضول
شارك الخبر
لم تكن الثورة المصرية في كانون الثاني/ يناير 2011 مجرد حلقة ضمن موجة الثورات العربية، بل كانت تعبيرا خاصا عن خصوصية مجتمعية مصرية عميقة، تشكّلت عبر قرون من المركزية السياسية، والدولة المتغوّلة، والصبر الاجتماعي الطويل، والقدرة الفريدة على تحويل السخرية إلى مقاومة، والفضاء العام إلى ساحة سياسة. ولهذا، فإن فهم شكل الثورة المصرية -ميدانها، وسلميّتها، وجماهيريتها، وحدودها- لا ينفصل عن فهم طبيعة المجتمع المصري ذاته.

في مصر، عبّر الشعب عن ثورته عبر احتلال الفضاء العام؛ لم يبدأ التغيير من القصر، ولا من الثكنة، ولا من البرلمان، بل من الشارع، ومن قلب العاصمة، ومن نقطة رمزية تختزل الدولة كلها: ميدان التحرير. هذا الاختيار لم يكن صدفة، بل كان انعكاسا طبيعيا لوعي جمعي يرى الدولة ككيان مركزي متضخم، لا تمكن مواجهته إلا بكسر رمزي مباشر في مركزه العصبي.

ميدان التحرير لم يكن مجرد مكان جغرافي، بل كان استعادة معنوية للدولة؛ الدولة التي احتكرت السياسة، والإعلام، والاقتصاد، والأمن، وادّعت تمثيل الوطن كله، وجدت نفسها فجأة خارج الميدان، بينما الشعب -بكل أطيافه- في الداخل. بهذا المعنى، لم يكن احتلال الميدان فعل احتجاج فقط، بل فعل نزع شرعية، كأن المصريين قالوا: هذه الدولة ليست أنتم.. هذه نحن.

لم يكن احتلال الميدان فعل احتجاج فقط، بل فعل نزع شرعية، كأن المصريين قالوا: هذه الدولة ليست أنتم.. هذه نحن

هذا الشكل من التعبير الثوري لا يمكن فصله عن تاريخ الدولة المركزية في مصر. فمصر عرفت، منذ الدولة الحديثة، نموذجا فريدا من السلطة المتراكمة في العاصمة، والمتركزة في شخص الحاكم وأجهزته. القاهرة ليست مجرد مدينة، بل عقل الدولة، وإعلامها، وبيروقراطيتها، وأجهزتها الأمنية. ومن ثم، فإن السيطرة الرمزية على قلب القاهرة كانت -في الوعي الجمعي- معادلة للسيطرة على المشهد كله، أو على الأقل لكسر احتكاره.

المجتمع المصري، بطبيعته، مجتمع صبور متراكم الغضب؛ لم يكن شعبا ميّالا للانفجار السريع، ولا للتمرد العنيف، بل هو مجتمع اعتاد التكيّف، والتحايل، والنكتة، والتذمر الصامت. هذا الصبر لم يكن ضعفا، بل آلية بقاء في مواجهة دولة لا تُقهر بسهولة. ومع الزمن، تراكم الغضب تحت السطح، دون أن يجد قناة سياسية للتعبير، حتى صار الانفجار -حين وقع- واسعا وعميقا.

قبل يناير، عبّر المصريون عن غضبهم طويلا بالسخرية. النكتة السياسية كانت سلاحا شعبيا قديما، تُفرّغ الغضب، وتُسقِط الهيبة، وتُبقي المسافة النفسية مع السلطة. ومع الوقت، لم تعد النكتة كافية، فانتقل المجتمع من التذمر إلى السخرية، ومن السخرية إلى الرغبة في الكسر. هذا الانتقال البطيء يفسر لماذا جاءت الثورة فجأة واسعة، لا متدرجة، فحين انفجر الغضب، انفجر دفعة واحدة.

ولهذا، جاءت الثورة المصرية في صورة تجمع بشري هائل، سلمي، مفتوح، بلا قيادة واضحة. هذا الشكل يعكس طبيعة المجتمع المصري الذي لا يثق بسهولة في النخب، ولا يحب التنظيمات المغلقة، ويميل إلى الفعل الجماعي العفوي. المصريون خرجوا لا لأن حزبا دعاهم، بل لأنهم رأوا بعضهم في الشارع؛ الحشد هنا لم يكن أداة، بل رسالة في حد ذاته: نحن كثيرون.. ولسنا خائفين.

السلمية كانت أيضا تعبيرا عن الخصوصية المجتمعية، فالمجتمع المصري، رغم قهره الطويل، لم يكن مجتمعا مسلحا، ولا ذا تقاليد قبلية قتالية، ولا ذا تاريخ قريب من الحرب الأهلية، كان مجتمعا مدنيا بطبعه، يخاف الفوضى، ويقدّس الاستقرار، حتى وهو يثور. ولهذا، كانت السلمية خيارا غريزيا، لا تكتيكا سياسيا فقط؛ المصريون أرادوا إسقاط النظام، لا إسقاط الدولة.

الهتاف، واللافتة، والاعتصام، والنكتة، والموسيقى، والصلاة، كلها اندمجت في مشهد واحد، هذا التنوع في أدوات التعبير يعكس تعدد المجتمع المصري ذاته. لم تكن الثورة حكرا على فئة، ولا لونا واحدا؛ الإسلامي بجوار العلماني، العامل بجوار الطبيب، الريفي بجوار ابن المدينة. الميدان تحوّل إلى صورة مكثفة لمصر نفسها، كما تريد أن تكون، لا كما فُرضت عليها.

لكن هذه الخصوصية ذاتها حملت في داخلها نقطة الضعف الكبرى، فالثورة التي نجحت في كسر الهيبة، لم تنجح في بناء البديل، المجتمع الذي استطاع إسقاط الرأس، لم يمتلك أدوات تفكيك الجسد. الدولة المصرية، بحكم تاريخها الطويل، لم تكن مجرد نظام سياسي يمكن إسقاطه بسهولة، بل شبكة عميقة من المصالح، والأجهزة، والبُنى، والعقليات. إسقاط مبارك كان ممكنا بالضغط الجماهيري، لكن تفكيك الدولة العميقة كان يحتاج إلى تنظيم، ورؤية، وزمن.

خصوصية مصر -من حيث الكثافة السكانية، والمركزية الشديدة، وتغلغل الدولة في كل مفاصل الحياة- جعلت الثورة قوية رمزيا، ضعيفة مؤسسيا. الرمزية كانت مذهلة: ميدان يهزم جهازا أمنيا، شعب يكسر حاجز الخوف، نظام يسقط في 18 يوما، لكن المؤسسية كانت غائبة: لا قيادة موحدة، لا برنامج انتقاليا واضحا، لا أدوات للسيطرة على مؤسسات الدولة.

هذا التناقض بين القوة الرمزية والضعف المؤسسي يفسر المسار اللاحق، فالدولة التي تراجعت خطوة أمام الميدان، أعادت تنظيم صفوفها بسرعة، والمؤسسة التي بدت محايدة، كانت في الحقيقة تستعد لإدارة اللحظة، والمجتمع الذي عاد إلى بيته بعد إسقاط الرأس، ترك السياسة بلا حراسة.

خصوصية الثورة المصرية تكمن في أنها لم تكن ثورة نخبوية، ولا ثورة أيديولوجية، ولا ثورة مسلحة، بل ثورة مجتمع كامل خرج ليقول: كفى، مجتمع واجه دولة ضخمة لا بالسلاح، بل بالحضور، لا بالعنف، بل بالكثرة، لا بالتنظيم، بل بالإصرار

حتى عفوية الثورة، التي كانت مصدر قوتها الأولى، تحولت لاحقا إلى عبء، فالعفوية أسقطت لكنها لم تُدِر، والحشود التي ملأت الميدان لم تتحول إلى قوة سياسية منظمة قادرة على فرض شروطها. هنا، ظهرت المفارقة المصرية الكبرى: شعب بالغ الذكاء الاجتماعي، ضعيف الخبرة السياسية، يعرف كيف يكسر، لكنه لم يتعلم كيف يحكم.

ومع ذلك، لا يمكن اختزال الثورة المصرية في نتائجها السياسية فقط، فكونها تعبيرا عن خصوصية مجتمعية يجعلها حدثا أبعد من لحظة عابرة. لقد أعادت تعريف العلاقة بين المصريين والدولة، ولو مؤقتا، كسرت حاجز الخوف، وأسقطت قداسة الحاكم، وأثبتت أن الدولة -مهما بدت صلبة- يمكن أن تُربكها الجماهير.

الثورة المصرية كانت، في جوهرها، ثورة كرامة جماعية؛ لم تخرج من أجل برنامج اقتصادي مفصل، ولا أيديولوجيا محددة، بل من أجل استعادة الشعور بالإنسانية في مواجهة دولة اعتادت الإهانة. ولهذا، كان شعار "ارفع راسك فوق أنت مصري" أصدق تعبير عن اللحظة؛ لم يكن شعار حكم، بل شعار تحرر نفسي.

من هنا، فإن خصوصية الثورة المصرية تكمن في أنها لم تكن ثورة نخبوية، ولا ثورة أيديولوجية، ولا ثورة مسلحة، بل ثورة مجتمع كامل خرج ليقول: كفى، مجتمع واجه دولة ضخمة لا بالسلاح، بل بالحضور، لا بالعنف، بل بالكثرة، لا بالتنظيم، بل بالإصرار.

قد تكون هذه الخصوصية هي ما جعل الثورة عظيمة في لحظتها، وهشّة في مسارها، لكنها، في كل الأحوال، ستظل نموذجا فريدا في التاريخ العربي الحديث: نموذج شعب كسر هيبة دولة عميقة، حتى لو عجز عن تفكيكها. وهذا الكسر -مهما جرى بعده- لم يكن بلا أثر.

فالثورات، في معناها الأعمق، ليست فقط ما تغيّره في السلطة، بل ما تغيّره في وعي الشعوب بذاتها. ومصر، منذ يناير، لم تعد كما كانت قبلها، مهما حاولت الدولة أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء؛ لأن المجتمع الذي احتل الميدان مرة، سيظل يعرف -في عمقه- أن الفضاء العام يمكن أن يعود إليه.. ولو طال الانتظار.
التعليقات (0)

خبر عاجل