مدونات

تحوّلات ما بعد الحرب الباردة: العالم الإسلامي بين إعادة التشكيل وصراع الهوية بزمن متعدد الأقطاب

رميصاء عبد المهيمن
"النظام الذي بُني بعد الحرب يتصدّع بسرعة"- CC0
"النظام الذي بُني بعد الحرب يتصدّع بسرعة"- CC0
حين وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، كانت البشرية تقف فوق ركامٍ هائل. المصانع متوقفة، والمدن رماد، والملايين قد ابتلعتهم الفاجعة. وكان السؤال الأكبر آنذاك: كيف نعيد تشغيل العالم؟ وبحكم الدور المركزي الذي لعبته الولايات المتحدة في الانتصار، تولّت قيادة النظام الدولي الجديد. فاجتمعت 44 دولة في "بريتون وودز" وأسست صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وتحوّل الدولار إلى نبض الاقتصاد العالمي، وهو الإيقاع الذي لا يزال يحكمنا حتى اليوم.

وفي المقابل، رسّخ الاتحاد السوفييتي نفوذه في أوروبا الشرقية بحثا عن ضماناتٍ لأمنه بعد الحرب: بولندا، ألمانيا الشرقية، هنغاريا.. كلها خضعت لموسكو. هكذا انقسم العالم إلى قطبين، وبدأت الحرب الباردة بلا قنابل، بل بالأفكار والعقائد: الشيوعية في مواجهة الديمقراطية الليبرالية.

والمفارقة أن القرارات التي صاغت العالم آنذاك لا تزال تتحكم به اليوم، لكن النظام الذي بُني بعد الحرب يتصدّع بسرعة. فالولايات المتحدة تفقد أدوات الطاعة القديمة؛ فالعقوبات، والاتفاقيات العسكرية، والضغط السياسي؛ لم تعد تنتج الخضوع ذاته. الصين حوّلت التعرفة الجمركية إلى ورقة قوة، والهند دفعت ثمن تحالفاتها، وروسيا أعادت ترتيب موقعها العالمي، بينما تتصرف بقية الدول بمنطق الموازنة الهادئة بدل الامتثال. لسنا أمام عالم معادٍ لأمريكا، بل أمام عالمٍ بعد أمريكا؛ عالمٍ متعدد الأقطاب، كل دولة فيه تعيد تعريف مصالحها بما يتجاوز مركزية واشنطن.

وفي قلب هذا التحول، تبرز المأساة الأكبر: العالم الإسلامي، الذي لم يكن طرفا في الحرب العالمية، دفع أثمان الحرب الباردة كاملة. السودان المنهك بالصراعات، باكستان المثخنة بجرح الإرهاب، فلسطين التي تُستنزف في كل يوم، سوريا المحطمة، اليمن الممزق.. كلها وجوه مختلفة لخللٍ واحد. كانت هذه المنطقة، وما تزال، مختبرا جيوسياسيا تُختبر فيه خرائط القوة على حساب الشعوب.

وإذا نظرنا إلى القدس، وجدناها المثال الأوضح لهذا الاضطراب، فهي المدينة الأكثر تنازعا على وجه الأرض، ومركز القداسة لأتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث. ألفياتٌ من التداخل بين الروح والسياسة جعلت من كل حجر فيها ذاكرة، ومن كل زقاقٍ قصة، غير أن أخطر ما يهددها اليوم تلك الحركات التي تريد تحويلها من فضاءٍ مقدس إلى مشروعٍ سياسي. منطق "إقامة الهيكل الثالث و"هدم المسجد الأقصى ليس رؤية دينية، بل نزعة لإعادة كتابة التاريخ لخدمة مشروعٍ توسّعي. ولهذا يرفض اليهود المتدينون أنفسهم ربط عقيدتهم بالصهيونية؛ لأنهم يدركون أنها تستخدم الدين غطاء لاحتلالٍ سياسي خالص.

تاريخيا، من يعيد كتابة التاريخ يفعل ذلك لغاية، والإعلام الذي يروّج سردية واحدة يفعل ذلك لتمويلٍ واحدٍ وغايةٍ واحدة، وعندما تتحول الأرض المقدسة إلى عقارٍ سياسي، يصبح الصراع صراع هويةٍ لا صراع حدود. وهذا الهوس بالهوية يتجلى اليوم بصورةٍ أوضح من أي وقت مضى في الخطاب الصهيوني.

وفي ظل هذا كله، جاءت إبادة غزة لتوقظ الضمير الإسلامي كله، إنها ليست مأساة فلسطينية فحسب؛ إنها اختبار لكرامة الأمة جمعاء. غير أن الرد هذه المرة لم يكن صخبا، بل وعيا جديدا؛ من الخليج إلى باكستان، ومن تركيا إلى أفريقيا، جيلٌ جديد يتشكل، جيلٌ يسأل، ويواجه، ويكتب روايته بيده بدلا من أن تُفرض عليه.

وباڪستان جزء من هذا المشهد؛ ليست مركزه ولا هامشه، بل جرحٌ من جراح الأمة. أربعون عاما من الإرهاب، ثمانون ألف شهيد، عبء الحرب الأفغانية، وظلم الرواية العالمية؛ كلها فصولٌ من جرحٍ واحد يتردد صداه في غزة والسودان واليمن وسوريا. الألم واحد، وإن اختلفت الخرائط.

اليوم، المعركة ليست معركة دبابات، بل معركة رواية، ومن يملك الرواية يملك الشرعية. والعالم الإسلامي، لأول مرة منذ عقود، يمتلك فرصة إعادة تعريف ذاته: لا بصوت الغضب، بل بصوت الحكمة. فالشهادة في غزة، أو في باكستان، أو في السودان.. هي في حقيقتها شهادة الأمة كلها. وقد قال رسول الله ﷺ: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد"، وها هو الجسد اليوم يصرخ من أطرافه كلها. هذه اليقظة صامتة، لكن صمتها سيغيّر العالم.

[email protected]
التعليقات (0)