مدونات

النمسا بين فخّ التقشّف وسوء التخطيط: اقتصاد يعاقب الفقراء ويطرد الكفاءات

كرم خليل
"النمسا اليوم تتصدر أوروبا الغربية في غلاء المعيشة"- جيتي
"النمسا اليوم تتصدر أوروبا الغربية في غلاء المعيشة"- جيتي
في لحظةٍ كان يُفترض أن تنهض فيها النمسا بإصلاحٍ اقتصادي حقيقي، يوازن بين العدالة الاجتماعية والقدرة التنافسية، اختارت الحكومة الطريق الأسهل والأفشل: ضرب الحلقة الأضعف في المجتمع.

بدلا من تحفيز النمو عبر جذب الاستثمارات الكبرى وتبسيط القوانين وتوسيع قاعدة الإنتاج، قرّرت السلطة معالجة العجز المالي عبر تقليص المساعدات الاجتماعية وحرمان أصحاب الدخل المحدود -خصوصا الحاصلين على الإقامات المؤقتة- من الحد الأدنى من الأمان المعيشي.

هذه ليست سياسة مالية، بل سياسة عقابية متنكرة بعباءة الإصلاح. فبدل أن تُصلح الدولة هيكل الاقتصاد، راحت تُصلح المواطن الضعيف بالضغط والإفقار. وهنا تكمن المفارقة القاتلة: الحكومة تتحدث عن "تشجيع العمل"، بينما العمل ذاته لم يعد يوفّر حياة كريمة. الأجور في النمسا لم تعد تكفي لتغطية أساسيات المعيشة، والتضخم يلتهم كل زيادة شكلية في الرواتب، وأسعار السكن والطاقة والغذاء تتضاعف بوتيرة تفوق قدرة أي أسرة متوسطة على الاحتمال.

الأجور في النمسا لم تعد تكفي لتغطية أساسيات المعيشة، والتضخم يلتهم كل زيادة شكلية في الرواتب، وأسعار السكن والطاقة والغذاء تتضاعف بوتيرة تفوق قدرة أي أسرة متوسطة على الاحتمال

بدل أن تكون الأولوية رفع الأجور أو دعم القوة الشرائية، تحوّلت المساعدات إلى أداة قمع اقتصادي. فالدولة تضغط على من هم أصلا في أضعف مواقعهم الاقتصادية وتجبرهم على الاندماج في سوق عمل مغلق، غير قادر على ضمان كرامة الإنسان. والنتيجة ليست إصلاحا بل مزيدا من الفقر والتهميش وانفصالا عميقا بين الخطاب الرسمي والواقع الاجتماعي.

المشكلة أعمق من المساعدات، فالنمسا تخسر رأسمالها الحقيقي: العقول والكفاءات. خلال أحد عشر عاما غادر البلاد أكثر من 170 ألف خبير -أطباء، مهندسين، مختصين- كانوا جزءا من العمود الفقري لسوق العمل. هذه ليست هجرة طبيعية بل نزيف استراتيجي يهدد مستقبل القدرة التنافسية للدولة. حتى الوافدون من الاتحاد الأوروبي يغادر نصفهم خلال أربع سنوات فقط، ما يعني أن بيئة العمل نفسها أصبحت طاردة.

اتحاد الصناعيين النمساوي حذّر صراحة: المشكلة ليست في الاندماج ولا في الكسل الاجتماعي، بل في نظامٍ اقتصادي بيروقراطي خانق؛ ضرائب مرتفعة، قوانين معقّدة، غياب للرؤية الصناعية والاستثمارية، فكيف يمكن أن تنجح دولةٌ تُضيّق على اليد العاملة وتطرد المستثمر في الوقت ذاته؟

الأرقام وحدها كفيلة بتفنيد الخطاب الرسمي؛ تحليل صادر عن معهد "Momentum" يُظهر أن المواطن الذي يريد الحفاظ على نفس مستوى المعيشة الذي كان عليه عام 2020، يحتاج إلى ما يقارب 7000 يورو إضافية سنويا، أي بزيادة شهرية تُقدّر بـ562 يورو، معظمها في الغذاء والسكن والطاقة.

النمسا اليوم تتصدر أوروبا الغربية في غلاء المعيشة؛ الزيادة في ألمانيا لا تتجاوز 470 يورو، وفي سويسرا 139 فقط. الفرق ليس في القدر، بل في الإدارة الاقتصادية الرشيدة التي غابت عن فيينا.

وفق منظمة "Volkshilfe"، يعيش أكثر من 1.5 مليون شخص في النمسا تحت خط الفقر أو على حافته، أي نحو 17 في المئة من السكان. في فيينا وحدها هناك 150 ألف شخص يعتمدون على المساعدات الاجتماعية، نصفهم تقريبا من غير النمساويين.

ومع القرارات الجديدة التي ستُطبق عام 2026، والتي تقضي بإلغاء المساعدات للحاصلين على الحماية الفرعية، سيُحرم أكثر من عشرة آلاف شخص من نحو 1800 يورو شهريا، ليستبدلوا بـ300 يورو فقط في نظام الرعاية الأساسية.

إنه قرار يحمل بذور أزمة اجتماعية- أمنية متكاملة: ديون متراكمة، أسر عاجزة عن دفع الإيجار، وموجة فقر قد تُشعل الشارع.

منظمات المجتمع المدني كـ"كاريتاس" و"دياكوني" حذرت مبكرا من انفجارٍ اجتماعي وشيك، لأن هذه السياسة لا تُصلح الاقتصاد بل تخلق مجتمعا منقسما ومتوترا. فحين يُسحق الفقراء، وتُغلق أبواب الفرص أمام الوافدين والمهاجرين، وحين تغادر العقول المنتجة البلاد؛ تُصبح الدولة أقل أمنا وأقل استقرارا وأقل جاذبية لأي استثمار حقيقي.

الحل لا يبدأ من تقليص المساعدات بل من إعادة هندسة الاقتصاد النمساوي على أسس تنموية واقعية:

- خفض الضرائب على العمل والإنتاج لزيادة جاذبية الاستثمار وتشجيع التوظيف.

- تحفيز الشركات الكبرى عبر شراكات إنتاجية وتسهيلات بيروقراطية مدروسة.

- إطلاق خطة وطنية للابتكار والتدريب تستثمر في الإنسان لا تعاقبه.

- تبني سياسات ضريبية تصاعدية عادلة تعيد التوازن بين الأرباح الكبرى والطبقات الوسطى والدنيا.

- دعم سوق الإسكان والطاقة بآليات تسعير رقابية تمنع التضخم المحلي المصطنع.

بهذا فقط يمكن للنمسا أن تسد العجز دون أن تسحق إنسانها، فالدول لا تنهض بتقليص الخبز عن أفقر مواطنيها، بل بخلق بيئة اقتصادية تُنتج أكثر وتظلم أقل. وما لم تدرك الحكومة أن العدالة الاجتماعية هي العمود الفقري للاستقرار الوطني، فإنها -شاءت أم أبت- تدفع النمسا نحو انحدارٍ بطيءٍ في اقتصادٍ بلا روح ومجتمعٍ بلا أمل
التعليقات (0)

خبر عاجل