"رحل مصطفى البراهمة بصمت يشبه طريقته في الحياة" هكذا علّق عدد من أصدقاء ومعارف المناضل الذي ظل حاضرا في كل منعطف من تاريخ اليسار
المغربي. برحيله، لا تفقد الذاكرة السياسية مجرد اسم من الجيل الجذري، بل تفقد أحد أعمدتها التي صمدت أمام الخيبات، دون أن تنكسر أو تساوم.
وأكّدت عدد من التعليقات التي رصدتها "عربي21" عن اليساري الراحل، أنّّه: "بين جدران السجن ودهاليز النقابة ومكاتب التعمير، نسج البراهمة سيرة رجل آمن بأن التغيير ليس شعارا يرفع، بل مسارٌ يُعاش بتواضع ومبدئية حتى الرمق الأخير".
توفي، اليوم الاثنين، السياسي اليساري، مصطفى البراهمة، الأمين العام السابق لحزب النهج الديمقراطي عن عمر يناهز 70 سنة بعد مرض عضال لم ينفع معه علاج.
من البدايات إلى وعي المهندس الشاب
في سبعينيات القرن الماضي، حين كان صوت
اليسار المغربي يخرج من الأزقة أكثر مما يخرج من المنابر، كان مصطفى البراهمة واحدا من أولئك التلاميذ الذين آمنوا بأن العدالة لا تُنتظر من فوق، بل تُنتزع من تحت.
انخرط مبكرًا في النقابة الوطنية للتلاميذ، وهي إحدى واجهات اليسار الجديد، وهناك تشكّل وعيه الأول على فكرة التنظيم، والانضباط، والوفاء للفكرة. ومع انتقاله إلى المدرسة المحمدية للمهندسين، لم يكن مجرد طالب علم، بل مشروع مناضل يبحث عن المعنى في زمن الصدامات الكبرى.
كان البراهمة، يرى في أبراهام السرفاتي، نموذج المهندس الذي لا يكتفي ببناء الجسور والإسمنت، بل يحاول بناء وعيٍ جديد. ومن هذه الصلة الفكرية وُلد انخراطه في منظمة إلى الأمام الماركسية اللينينية، التي كانت تطرح نفسها آنذاك بديلاً في مواجهة نظام سياسي مغلق، وسقفٍ منخفض للحريات.
السجن… مدرسة أخرى للنضال
في عام 1985، حين كان في الثلاثين من عمره، وجد البراهمة نفسه داخل الزنزانة بدل قاعة الاجتماعات.
حُكم عليه بعشرين سنة سجنا بتهمة "المؤامرة ضد النظام"، وقضى منها قرابة تسع سنوات خلف القضبان. هناك، وسط جدران البرد والانتظار، أعاد ترتيب أفكاره دون أن يتخلى عنها.
في رسائل متفرقة لرفاقه، كان يكتب: "الحرية لا تُقاس بالجدران، بل بالقدرة على الاحتفاظ بالإيمان بعد العزلة".
خرج بعفو ملكي عام سنة 1994، كما خرج كثيرون من أبناء جيله، لكن بخطى مختلفة. لم يتجه إلى التقاعد النضالي، بل ساهم مع رفاقه في تأسيس حزب النهج الديمقراطي، محاولة لترجمة اليسار الجذري إلى عمل سياسي علني، لا يفقد جذره الثوري ولا يكتفي بالشعارات.
اظهار أخبار متعلقة
النهج الديمقراطي.. يسارٌ في زمن التحولات
مع منتصف التسعينيات، كانت البلاد تدخل مرحلة جديدة عنوانها "الانفتاح"، وكانت كثير من الأحزاب اليسارية القديمة قد اختارت طريق التسويات والمشاركة.
أما مصطفى البراهمة، فكان من الذين اعتبروا أن المسار الديمقراطي لا يُبنى من فوق، وأن الإصلاح من داخل النسق السياسي القائم لا يكفي. لذلك أسّس رفقة رفاقه حزب النهج الديمقراطي، الذي حاول أن يكون الامتداد الشرعي والعلني للفكر اليساري الجذري في زمن التحول.
طوال قيادته للحزب، بين 2012 و2022، ظل البراهمة وفيًّا لخط المقاطعة السياسية، معتبرا أن "الانتخابات في المغرب تُدار أكثر مما تُختار"، وأن النضال الحقيقي يوجد في الشارع والنقابة والجمعية.
لم يكن معارضا من باب المعارضة، بل مؤمنا بأن الموقف الجذري ليس تشددًا، بل شكل من أشكال الوفاء للمبدأ. وبينما انخرطت تيارات أخرى في "التناوب والمشاركة"، بقي البراهمة يشبه نفسه: صادقًا في هدوئه، ثابتا في قناعته، وحادًّا في منطقه الهادئ. وفقا لما يصفه أصدقائه ومعارفه.
البراهمة الإنسان والمهندس
بعيدًا عن الشعارات السياسية، كان مصطفى البراهمة وجها آخر من جيل جمع بين المعرفة العلمية والالتزام السياسي.
مهندس الأشغال العمومية ومفتش التعمير، لم يفصل يوما بين المهنة والقناعة، وكان يرى في التخطيط العمراني مرآةً للعدالة الاجتماعية.
حتى في سنوات المرض الأخيرة، واصل نقاشاته الأكاديمية، وناقش أطروحته بالمعهد الوطني للتعمير والتهيئة، مؤمنا أن الفكر لا يشيخ ما دام مرتبطًا بالحياة العامة.
اظهار أخبار متعلقة
رفاقه يتذكرونه رجلا هادئا، قليل الكلام، لا يحب الظهور الإعلامي إلا بقدر ما يخدم الفكرة. قال عنه أحد زملائه في الحزب: "كان البراهمة يختلف معنا، لكن باحترام. لا يرفع صوته، لكنه يقنعك بأن الثورة الحقيقية تبدأ من طريقة الكلام".
وهكذا ظل، حتى وهو يواجه المرض في صمت، متمسكًا بكرامته وبساطة العيش التي جعلته قريبا من الناس الذين ناضل باسمهم.
برحيل مصطفى البراهمة، يغيب أحد آخر رموز اليسار الجذري المغربي الذين عاشوا زمن السرية والسجن ثم واجهوا زمن التحول بشجاعة وهدوء. تاركا خلفه تجربة سياسية وفكرية قد تختلف حولها الأجيال، لكنها تتفق على أمر واحد: أنه كان مناضلا صامتا، وصمته كان في كثير من الأحيان أبلغ من الخطب.