لا أجد غضاضة في الإفصاح بكوني من الفئة التي ظلت تنظر لجيل "زد"
في
المغرب بعين الريبة وحتى الاستخفاف، ورغم علاقتي الجيدة جدا بأبنائه لكن ذلك لم
يدحض تلك النظرة تجاههم؛ لا سيما حين يتعلق الأمر بنظرة التعالي والفوقية التي
يقابلون بها القضايا المصيرية للأمة، وحتى الوطن، وإصرارهم على تصدير خطاب
"كرتوني" لا يمت للواقع بصلة ويزكي أسطوانة عيشهم خارج الزمن وبناء عالم
خاص يحتضن آراءهم وأحلامهم وفلسفتهم في الحياة؛ فما الذي تغير اليوم يا ترى؟
استمرارا لأسلوب الصراحة المعهودة فإنني وجدت نفسي في قلب دوامة من الأفكار
والمتغيرات التي أجبرتني أولا على قطع إجازتي الاختيارية في متابعة الشأن المحلي
المغربي منذ العاشر من كانون الأول/ ديسمبر 2020، تاريخ إعلان أو إشهار التطبيع مع
الكيان الصهيوني، بالتزامن مع الخطاب السطحي الركيك المستشري في الوسط السياسي والإعلامي
الذي لا يمثلني ولا أتشرف بالغوص في مستنقعه.
أبناء هذا الجيل نجحوا في اتخاذ خطوة النزول للشوارع بعيدا عن أية تأثيرات ولا قيادات تنطلق من حسابات معينة ولها أجندة وأهداف أخرى مثيرة للشك والهواجس
هبّة جيل "زد" حتمت علي كسر العزلة والخروج من القوقعة لفهم ما
يجري ويدور؛ رغم أنني لطالما توقعت الوصول لهذه النقطة في القريب العاجل دون أن أزعم
أنها ستكون من الفئة التي سعت الدولة بكل ثقلها لإقناعنا بأنها خارج التغطية كليا،
والدليل الأمواج البشرية التي حجت للعاصمة الرباط لمشاهدة حفل أحد أشهر مغني الراب
المعروف بكلامه النابي والساقط؛ هنا حاولوا "إقناع" الجميع بأن هذا هو
مستوى جيل "زد" الحقيقي وهو التمايل على إيقاعات هذا "الطوطو"
وترديد أغانيه البذيئة والتلويح بإشارات مخلة؛ فكيف جاءت الصدمة قوية ورد هذا
الجيل على كل الادعاءات وأسقط كل الصور النمطية حوله؟
مطالب اجتماعية:
على حين غرة وفي ذروة الانتشاء بما تسميها الحكومة "الإنجازات
الرياضية" التي غطت على واقع مزرٍ معاش؛ خرج هذا الجيل من القمقم ليباغت الكل،
وللمفارقة حاملا شعارات ومطالب اجتماعية عادلة تهم القطاعين الرئيسين الحيويين
اللذين يعانيان من كوارث وصعوبات جمة، ونقصد هنا الصحة والتعليم.
هذا التبني من المشروع والطبيعي أن يكون على رأس أولوية الحكومة والأحزاب
التي تعيش انفصاما مريبا عن الواقع وتقتات من كعكعة الريع، والمناصب شغلها الشاغل
والرئيس رغم تغير النبرة في الأسابيع الأخيرة، وذلك متوقع بسبب بداية العد العكسي
للانتخابات المقبلة وعلى كل طرف إجراء "الإحماءات" في وقتها المحدد والبحث
عن منافذ قصد الولوج لأرضية الملعب في الوقت المناسب، وتعزيز فرص الظفر بأكبر عدد
ممكن من النقط قبل الخصوم (رغم أن بعضهم وللمفارقة يشكلون تحالفا حكوميا يفترض انه
صلب ومتين).
إذن تفطن جيل "زد" للفراغ المهول في الساحة السياسية ولغياب
المصداقية لدى جل مكونات هذا الفضاء؛ ليقرر كسر الجمود ووضع النقط على الحروف، ما
جعله يضرب سلسلة عصافير بحجر واحد؛ وأولها محو الصورة السلبية عنه بالعيش والتغريد
خارج السرب، والتأكيد على أنه يتنفس نفس الهواء مع عموم الشعب ويقاسم ذات الهموم
ويئن لجراح المواطن البسيط المقهور؛ بعيدا عن صورة المغربي الذي يتنقل بين الملاعب
الرياضية والفنادق الفخمة دون أدنى حس بالمسؤولية.
ولعل النقطة الأخطر التي تقض مضجع الكثيرين اليوم ممن يسعون للاستهانة
بصرخة الجيل الجديد هذا؛ أن أبناء هذا الجيل نجحوا في اتخاذ خطوة النزول للشوارع
بعيدا عن أية تأثيرات ولا قيادات تنطلق من حسابات معينة ولها أجندة وأهداف أخرى
مثيرة للشك والهواجس.
المقاربة الأمنية لا تتغير:
الإشكال العويص الذي أفرزته خطوة جيل "زد" يتجلى في التعامل
المسيء من لدن القوى الأمنية التي تحتفظ بنفس المقاربة والعقلية الوحشية، ولا تفرق
بين القادمين من "الجيل الصامت" ولا "جيل طفرة المواليد" أو "جيل
إكس"، وربما ستظل على هذه الحال حتى مع
الأجيال القادمة مثل "جيل بيتا"
و"جيل غاما" (مواليد 2040-2050) "وجيل دلتا" (مواليد
2055-2069) لو سنحت لها الفرصة.
غياب وعي ملموس حول هذه الهوة التي كرستها صرخة هذا الجيل اليوم، ومن غير المستبعد أن تنتقل جمرتها لدول عربية أخرى تتابع باهتمام بالغ ما يعيشه المغرب اليوم
هنا لا بد من طرح سؤال عريض: ماذا تعرف الأجهزة الأمنية حول تغير الأجيال
ومميزات كل جيل عن الآخر؟ وهل من المسموح التعاطي بذات العقلية الأمنية مع الجميع
دون تمييز؟ فهل الأجيال التي عاشت ويلات المعتقلات وجحيم التعذيب على سبيل المثال
يمكن مقارنتها مع جيل رضع ثدي الحرية ولا يخشى الجهر بما يعتمل في فؤاده، وزاده
الجرأة والصراحة التي تعلمها من وراء الشاشات والتطبيقات التي لا تهادن ولا تخشى
في قول الحق لومة لائم؟
من المؤسف حقا غياب وعي ملموس حول هذه الهوة التي كرستها صرخة هذا الجيل
اليوم، ومن غير المستبعد أن تنتقل جمرتها لدول عربية أخرى تتابع باهتمام بالغ ما
يعيشه المغرب اليوم؛ في تأكيد وترسيخ جديد بأن سعي البعض لنفث سموم خطابات مفادها
عدم وجود روابط أصيلة وحقيقية بين كل البلاد العربية هو مجرد أوهام لا تمت للواقع
بصلة.
المؤكد أن هبّة جيل "زد" ما تزال في بدايتها وأنه الأوان للبحث
عن آليات حوار ممنهج والتنازل عن لغة العنجهية وتوزيع الاتهامات المعلبة يمينا
ويسارا؛ لأن هؤلاء
الشباب وطنيون حتى النخاع، وغيرتهم على بلدهم ومستقبله هي ما
جعلتهم يغادرون منصاتهم وتطبيقاتهم ليرفعوا صوتهم في الشوارع لإنصاف أبناء جلدتهم
المحرومين من أبسط الخدمات، وأيضا محاربة الفساد المستشري في أغلب القطاعات.
ونختم بما صاغه الكبير نزار قباني يوما لأطفال الوطن العربي الذي كبروا
اليوم: "أنتم سنابل الآمال.. وأنتم الجيل الذي سيكسر الأغلال.. ويقتل الأفيون
في رؤوسنا ويقتل الخيال.. يا أيها الأطفال أنتم- بعد طيبون وطاهرون.. كالندى
والثلج طاهرون.. لا تقرؤوا عن جيلنا المهزوم يا أطفال فنحن خائبون.. يا أيها الأطفال: يا مطر الربيع.. يا سنابل الآمال.. أنتم
بذور الخصب في حياتنا العقيمة وأنتم الجيل الذي سيهزم الهزيمة".