قضايا وآراء

فرنسا: أزمة حكم أو مؤشرات مالية وائتمانية

محمد موسى
"الاحتجاجات الشعبية قد يقود إلى اهتزاز أعمق في بنية الحكم، مع احتمال صعود قوى سياسية معارضة للنخبة التقليدية"- جيتي (أرشيفية)
"الاحتجاجات الشعبية قد يقود إلى اهتزاز أعمق في بنية الحكم، مع احتمال صعود قوى سياسية معارضة للنخبة التقليدية"- جيتي (أرشيفية)
تشهد فرنسا في المرحلة الراهنة أزمة مركبة ذات أبعاد سياسية واقتصادية ومالية، تتداخل فيها التحديات الداخلية مع تداعيات الأزمات الدولية، مما يجعلها واحدة من أعقد المحطات التي تمر بها الجمهورية الخامسة.

فمن الناحية الاقتصادية، يعاني النمو من ضعف ملحوظ، إذ لم يتجاوز معدل التوسع المتوقع للناتج المحلي الإجمالي في عام 2025 نسبة 0.6 في المئة، وهو مستوى هزيل لا يتناسب مع حجم الاقتصاد الفرنسي ولا مع حاجاته التنموية، على أن يتحسن تدريجيا إلى نحو 1.3 في المئة في العام التالي. وفي الوقت نفسه يظهر التضخم في أدنى مستوياته مقارنة بالدول الأوروبية الأخرى، حيث سجل أقل من واحد في المئة خلال صيف 2025، إلا أنّ انخفاضه لا يُترجم بالضرورة إلى رخاء معيشـي، بل يرافقه ركود نسبي يحد من فرص العمل ويضغط على القدرة الشرائية.

أما البطالة، فتظل هاجسا أساسيا، إذ تراوح حول 7.5 في المئة خلال الربع الثاني من العام الجاري، مع توقعات بارتفاعها إلى قرابة 8 في المئة مع نهاية العام، قبل أن تتراجع قليلا في حال تعافي النمو. هذا الواقع يفاقمه عبء الدين العام الذي بلغ أكثر من 113 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2024، ومن المرجح أن يتخطى 116 في المئة في 2025 وأن يقترب من 118 في المئة في 2026. ويقابله عجز مالي يقارب 6 في المئة من الناتج المحلي، ما يعني أن الدولة تنفق بصورة تفوق إيراداتها بشكل مستمر،
إلى جانب التشرذم السياسي يبرز الحراك الشعبي الرافض لأي مساس بالمكتسبات الاجتماعية من معاشات وتقديمات صحية ودعم معيشـي، وهو ما ظهر في سلسلة من التظاهرات الواسعة تحت شعار رفض سياسة التقشف
الأمر الذي يزيد كلفة خدمة الدين ويجعل جزءا كبيرا من الموازنة مخصصا للفوائد على حساب التعليم والصحة والبنى التحتية. فالأرقام لا تبشر بالخير، حيث الأزمات المالية المفتوحة؛ إن عبر المؤشرات الداخلية أو في التحديات ضمن الاتحاد الأوروبي، أو عبر رسوم الرئيس ترامب التي كسرت كل مراكب الإنقاذ الآنية ليس في فرنسا وحدها بل في كافة دول الاتحاد الأوروبي.

على الصعيد السياسي، تبدو الصورة أكثر تعقيدا. فالحكومة وتأليفها حتى الساعة ليس بالأمر السهل وهي لا تحظى بأغلبية برلمانية واضحة، ما يجعل تمرير الإصلاحات الكبرى شبه مستحيل، وقد سقطت الحكومة الأخيرة بعد تصويت بحجب الثقة على خلفية محاولتها طرح خطة تقشفية. وإلى جانب التشرذم السياسي يبرز الحراك الشعبي الرافض لأي مساس بالمكتسبات الاجتماعية من معاشات وتقديمات صحية ودعم معيشـي، وهو ما ظهر في سلسلة من التظاهرات الواسعة تحت شعار رفض سياسة التقشف. هذا التناقض بين ضرورات الإصلاح المالي وإصرار المجتمع على حماية النموذج الاجتماعي الفرنسي يجعل أي سلطة تنفيذية في موقع صعب، حيث لا يمكنها المضي قدما دون مواجهة رفض شعبي عارم، ولا يمكنها التراجع دون المخاطرة بانهيار مالي تدريجي، وكأنني بالنظام الفرنسي يتراقص على حافة الهاوية، فهل نحن أمام إرهاصات الجمهورية السادسة؟

وتعود جذور الأزمة إلى بنية الاقتصاد الفرنسي الذي يعتمد على إنفاق عام مرتفع لدعم شبكات الحماية الاجتماعية وتثبيت الاستقرار الداخلي، والتي كانت قد تضاعفت أعباؤها مع جائحة كورونا وما تبعها من خطط إنقاذ، ثم جاءت الحرب في أوكرانيا لتضيف ضغوطا هائلة على أسعار الطاقة والغذاء وشكلت ضربة في صميم الاقتصاد الفرنسي و الأوروبي، ما اضطر الدولة إلى توسيع نطاق الدعم لحماية الأسر. هذه السياسة وإن كانت ضرورية آنيا، إلا أنها أضعفت قدرة المالية العامة على التوازن وزادت من سرعة تراكم الديون. ومع تراجع الإيرادات الضريبية مقارنة بالنفقات الضخمة، تعمقت الفجوة الهيكلية في الموازنة ما دفع الوكالات الائتمانية إلى بداية الحديث عن إعادة النظر في تصنيف فرنسا الائتماني؟!

فرنسا ليست أمام انهيار للنظام بل أمام أزمة حكم ذات أبعاد مالية هيكلية، لكنها قد تتحول إلى أزمة نظامية إذا استمرت حالة الانسداد السياسي وتفاقمت التوترات الاجتماعية. إن المعضلة تكمن في كيفية إعادة صياغة عقد اجتماعي جديد يوازن بين متطلبات الإصلاح المالي وحماية النموذج الاجتماعي الذي يشكل جزءا من هوية الدولة الفرنسية

في ضوء هذه المعطيات، يُطرح السؤال الجوهري: هل ما تشهده فرنسا أزمة نظام أم أزمة حكم؟ يبدو أن جوهر المشكلة يرتبط بأزمة حكم أكثر من كونه خللا في النظام السياسي ذاته، فالجمهورية الخامسة أثبتت مرونتها على مدى عقود، غير أن أدوات الحكم في السياق الراهن تبدو عاجزة عن التوفيق بين استحقاقات التصحيح المالي ومتطلبات الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي. فالتوازن مفقود بين التزامات الدولة تجاه مواطنيها وبين الضغوط المالية التي تفرضها الديون والعجز. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن الأزمة تحمل في طياتها عناصر تهدد النظام نفسه، خصوصا في ما يتعلق بفقدان الشرعية السياسية وتآكل الثقة الشعبية في المؤسسات، فضلا عن العجز المزمن عن تمرير إصلاحات هيكلية بسبب الانقسام الحزبي وتنامي الخطابات الشعبوية يمينا ويسارا، خاصة بعد أزمة أوكرانيا وأزمات الشرق الأوسط وما يجري من إبادة في غزة.

إن استمرار هذا الوضع يفتح الباب أمام مخاطر جدية، أبرزها تفاقم أعباء خدمة الدين على حساب الإنفاق التنموي، واتساع رقعة البطالة، وازدياد احتمالات خفض التصنيف الائتماني لفرنسا، ما يضاعف كلفة الاقتراض ويقيد السياسات العامة. كما أن استمرار الاحتجاجات الشعبية قد يقود إلى اهتزاز أعمق في بنية الحكم، مع احتمال صعود قوى سياسية معارضة للنخبة التقليدية، الأمر الذي قد يغير ملامح المشهد السياسي برمته، فهل نصل يوما ما إلى سماع استقالة الرئيس ماكرون أو أي صيغة لحل الجمعية الوطنية مجددا مع كل ما تحمل الخطوات من عقبات دستورية؟

من هنا يمكن القول إن فرنسا ليست أمام انهيار للنظام بل أمام أزمة حكم ذات أبعاد مالية هيكلية، لكنها قد تتحول إلى أزمة نظامية إذا استمرت حالة الانسداد السياسي وتفاقمت التوترات الاجتماعية. إن المعضلة تكمن في كيفية إعادة صياغة عقد اجتماعي جديد يوازن بين متطلبات الإصلاح المالي وحماية النموذج الاجتماعي الذي يشكل جزءا من هوية الدولة الفرنسية، فهل أصبحت الهوية الفرنسية أمام مفترقات طرق في العهد الماكروني الثاني؟
التعليقات (0)

خبر عاجل