بعد
مرّ ما يزيد على مائة عام على نشوء الدولة
القُطرية، التي كانت ثمرة سقوط الخلافة
الإسلامية التي كانت تجمع العالم
العربي والإسلامي تحت راية واحدة، ودولة واحدة،
ومرجعية واحدة.
وبسقوطها
تم العمل على تقسيم جغرافيتها الواحدة إلى كيانات جغرافية متعددة، ومتباينة في
المساحات، كل كيان له حدوده وعلمه ونظامه الخاص، وسميت لاحقا هذه الكيانات التي
كانت تحت الاستعمار الغربي وبرعايته بالدول؛ نالت استقلالها لاحقا عبر اتفاقيات أو
كفاح وثورات مسلحة، إذ خرج المستعمر منها بعد أن ثبّت أركانها كدول مستقلة، ذات
سيادة ونظم مستقلة.
المهم
في الموضوع أن هذه الكيانات الجغرافية أصبحت دولا ذات حدود مرسومة، وأنظمة معلومة،
ورايات مرفوعة، واجتهدت أنظمة هذه الدول في تثبيت مفهوم الدولة القُطرية في أذهان
الناس الذين لم يعتادوا على شيء كهذا من قبل، ووضعت الخطط والبرامج التي من شأنها
تكريس الواقع الجديد، والعمل على تغيير الأفكار والمعتقدات السابقة التي كانت
قائمة على مفهوم الأمة، بكل أبعادها وبغض النظر عن جغرافيتها المتباعدة، لغرس
مفهوم الوطنية المتمثل بإعلان الولاء والانتماء للدولة القُطرية الجديدة، والتي مرت
بمراحل، وكان أهم مرحلة فيها مرحلة تكريس القوميات وفكرها، والعمل تحت رايتها. وكان
من أهم منتجات هذه المرحلة (مرحلة
القومية العربية) الجامعة العربية، التي تشكل
مظلة للعمل العربي المشترك، واجتهدوا في تمكينها لتحل محل القومية الإسلامية
الجامعة التي تتجاوز القوميات الفرعية، لا بل كانت تعمل على صهرها جميعا في بوتقة
واحدة، يتساوى فيها الجميع، حسب شريعة الله التي لم تفرق بين الناس على أساس
أحسابهم ولا أوزانهم الاجتماعية أو الاقتصادية، ولا على أساس أشكالهم وألوانهم.
حتى يتم تغيير هذا الواقع الذي لا يتناسب مع المنتج الجديد، وهو الدولة القُطرية، كان لا بد من التركيز على ما يعيد ترتيب أولويات المواطن العربي، ونقله إلى بوتقة القُطرية وصهره بأفكارها، وقولبتها بقوالبها، حتى يتشرب أبعادها، ويخلص في الانتماء لها، وبالنهاية يتوج ذلك بالولاء المطلق لأنظمتها
وحتى
يتم تغيير هذا الواقع الذي لا يتناسب مع المنتج الجديد، وهو الدولة القُطرية، كان
لا بد من التركيز على ما يعيد ترتيب أولويات المواطن العربي، ونقله إلى بوتقة القُطرية
وصهره بأفكارها، وقولبتها بقوالبها، حتى يتشرب أبعادها، ويخلص في الانتماء لها،
وبالنهاية يتوج ذلك بالولاء المطلق لأنظمتها.
في
الحقيقة نجح النظام القُطري في إحداث هذه النقلة في العقلية العربية، وركز لواء
القُطرية فيها، وجعلها منطلقه في كل أمره، بعد أن سخّر كل إمكانياته ووسائله من
إعلام وتربية وسياسة واقتصاد وسياحة ومؤلفات وندوات ومؤتمرات وشعارات وهتافات؛ في
خدمة تركيز راية القطرية، المنتهية بولاء مطلق للنظام الحاكم، فكان شعار
"قُطرنا أولا" الذي شكل المرحلة الثانية، في تضييق وتحديد معالم القُطرية،
ونقلها من فضاء القومية العربية، إلى فضاء القطر الواحد بحدوده ورايته ونظامه، فتم
التركيز عليه بعد فشل القومية وإبعادها كخيار مصغر لوحدة ولو كانت وحدة شكلية، أو
قل بعد أن استفرغت القومية دورها، وأدت ما عليها، جاء هذا الشعار حتى يتجاوز
القومية، التي فيها نفَس جمعي يتجاوز الحدود المرسومة نوعا ما، إلى نفس قُطري
خالص، له حدوده وسدوده، نفَس قُطري نقي لا تلوّثه أنفاس قومية، ولا تعبث به أحلام
وهمية، فأصبح هذا الشعار مرتكزا من مرتكزات التربية والتعليم، ومنطلقا من منطلقات
الجيوش والأجهزة الأمنية، وبالتالي أساسا من أسس الوطنية الصادقة، مضمونه وغايته؛
المهم أنا ولا شأن لي بغيري، فأصبح بموجبه أن تحمل همّ أخيك العربي في جوارك، يعني
تدخلا مرفوضا في شأن الآخرين، وإن انتقدت نظاما منها فهذه إساءة تعاقب عليها،
بتهمة تعكير العلاقات مع دولة شقيقة.
كل
هذا كان إمعانا في تقطيع الأوصال، وتأكيدا على الانفصال، وأي تعاطف مع قضايا أخيك
العربي، الذي تتحد معه في اللغة والدين واللون والشكل والعادات والتقاليد، لكنه
يقبع خلف حدود أخرى، يعد تدخلا غير مقبول، يعاقب عليه القانون. فتم بالتدريج تقليص
المظاهر التي تحمل في جوهرها قيما تتنافى مع مفاهيم ومتطلبات الدولة القُطرية،
التي تقول لك: "ما خصك بغيرك"، و"مو شغلك"، و"أنت ما لك
وما لهم".. الخ؛ فلا احتجاجات على انتهاك حرمة المسجد الأقصى، ولا مظاهرات
على اجتياح المدن الفلسطينية، ولا خروج في شوارع العواصم العربية وساحاتها تنديدا
بحرب الإبادة والتجويع التي تتعرض لها غزة.. وفلسطين أسوقها هنا مثلا، والأمر
ينسحب على كل المستجدات التي شهدتها الدول العربية القُطرية الأخرى.
المهم
أنت اليوم أمام لوحة عربية في قمة البشاعة، تغيب عنها كل المعاني والقيم، لا أقول
القيم الأخوية والدينية والعروبية، بل للأسف القيم الإنسانية العامة، التي لا
يختلف عليها إنسانيا، وهي محل إجماع العالم الإنساني السوي، الذي لم يشذ في سلوكه
وطبعه، وما زال منسجما مع فطرته الأولى التي فطر الله عليها الناس أجمعين.
اللوحة
المرسومة للأمة العربية الغارقة في قُطريتها اليوم، سوداء قاتمة السواد، تغرق في
بحر لُجّيّ من الأنانية البغيضة، وتتقاذفها أمواج العداء والكراهية والأمراض
النفسية لأنظمتها الحاكمة، التي امتازت بالاستبداد والفساد، واتخذت من هذه الأقطار
مزارع عائلية، تتوارثها وتنهب خيراتها، وتعيث فيها فسادا، وتتحطم فيها القيم على
صخور الحكم الفردي المستبد الذي يأبى أن يشاركه أحد من سكان مزرعته الرأي، أو أن
ينتقد له رأيا أو تصرفا، فهو الحاكم الذي لا يناقَش ولا يحاسَب، ولا يقال له: لِمَ
فعلت هذا، ولم تفعل هذا؟!
إذا
كانت القومية هي النفق الأول الذي مزّق وحدة الأمة، وعمل على ترسيخ الدولة
القطرية، ثم جاء النفق الثاني نفق "أنا أولا"، ليكون الكاتم لأي نفَس
جماعي، يمتد خارج الحدود، ويعمّق الأنانية القطرية، ويمعن في اتساع الهوة وتجذير
الفرقة، وتأكيد الحدود الفاصلة والسدود القاتلة، وقد كان له ما أراد.
في كل مرحلة من مراحل التشظي التي أصابت الأمة العربية، وقزّمتها وفرّقتها شر تفرقة، وأوصلتها إلى أسوأ حالة، تجد لها طوابير من المطبلين والمزمرين، والهاتفين الناعقين لها، من إعلاميين وصحفيين وأكاديميين وحزبيين ومثقفين وفنانين وممثلين وعلماء دين
اليوم
الأمة العربية بكل دولها القُطرية تقف على بوابة النفق الثالث، وقد دخل كثير من
دولها هذا النفق المظلم، نفق
الهوية الوطنية، وفجأة تصبح حديث الإعلام، ومادة
الحوارات، ومنطلق النقاشات، وتتصدر عناوين من قبيل؛ الهوية الوطنية اليوم مهددة،
الهوية الوطنية مستهدفة، الهوية الوطنية في خطر، ويجب بناء السردية الوطنية،
الواجب الآن الحفاظ على الهوية الوطنية.
والحقيقة
أن هذا النفق (نفق الهوية الوطنية) خطير جدا؛ لأنه يستهدف مكونات الدولة القُطرية
نفسها، ويعمل على تجزئتها إلى كانتونات وحارات، والتفريق بين مكوناتها، وزرع بذور
الفتنة والعداء والتوتر بين مكونات الدولة القُطرية، التي هي في الأصل تعاني من
الضعف والفقر والبطالة والمديونية والفساد والمحسوبية.. يعني "مش ناقصها"
مشكلات جديدة أو طارئة، تأتي على لُحمتها الداخلية، وتسيء لوحدتها المجتمعية.
الهوية
الوطنية نفق مظلم، وأساس باطل أريد له أن يوظف للتمييز بين المواطنين أنفسهم،
فتجعلهم درجات في الامتيازات، وأقساما في الحقوق والواجبات، مما يؤدي إلى تمايز
فيما بينهم، الأمر الذي يؤلب بين أبناء الشعب الواحد، وبالتالي تسود أجواءه
التوترات الدائمة، والنفوس المتحفزة المتهمة بعوار في هويتها الوطنية، المصابة
بداء ازدواج الهوية الوطنية، أو الارتباطات الخارجية.
وفي
كل مرحلة من مراحل التشظي التي أصابت الأمة العربية، وقزّمتها وفرّقتها شر تفرقة،
وأوصلتها إلى أسوأ حالة، تجد لها طوابير من المطبلين والمزمرين، والهاتفين
الناعقين لها، من إعلاميين وصحفيين وأكاديميين وحزبيين ومثقفين وفنانين وممثلين
وعلماء دين.. ولا غرابة في ذلك، فالشيء الوحيد الذي أحسنت الدولة القُطرية صناعته
ورعايته جوقة المطبلين بحمدها، المسبحين بذكرها، الخاشعين في محرابها.