كنت قد ناقشت هنا ظاهرة تحول بعض الإخوان
لأمنجية، يعملون مع النظام، بما يمثل تخليا عن شرف الخصومة، بل يتحولون إلى خصوم
غير شرفاء، بشكل لا يمت لحسن العشرة بصلة، ولا لأخلاق الرجولة، فضلا عن التدين
الصحيح، فيكيلون الافتراءات، ويفترون الكذب، ولو أنهم تحدثوا عن الإخوان حديث
المعلومات الدقيقة والصحيحة، وحللوا ذلك تحليلا علميا منهجيا، ما استطاع أحد أن
يلومهم، أو يتحدث عن مثل هذه الظاهرة التي لا تنتمي إلا لخسيس الأخلاق، وهي ظاهرة
لا تتعلق بمن يغادرون الإخوان ويتحولون لأمنجية ممن كانوا إخوانا فقط، بل هي ظاهرة
فيمن يغادر تنظيما، أو فصيلا، ولا يلوي على خلق أو عشرة، فيتحول للانتقام، والتكسب
المادي والمعنوي من وراء ذلك.
بعد هذا المقال، والذي كان عنوان: إخوانجية
صاروا أمنجية، وكأن المقال قد أشار إلى بطحة على رؤوس أصحاب الحالات التي
تناولتها، ولم يكن همي أشخاصا بقدر ما كان همي دراسة ظاهرة، ولأن بعضهم يريد أن
يلبس ما يقوم به لباس أنه غادر التنظيم، وانحاز للدولة، فالدولة أبقى وأهم من
التنظيمات، وهو كلام يصح لو أنه غادر بشرف، والتحق لأي جهة اقتنع بها بشرف خصومة،
وكان لديه مشروع يقدمه يفيد وطنه وأمته، ولذا كان من المهم ذكر الحالات التي غادرت
تنظيم الإخوان بشرف خصومة، وعملوا بعد ذلك من خلال دولاب الدولة، فقد كان التنظيم
بالنسبة إليهم وسيلة لخدمة الإسلام، والعمل من خلال وزارات الدولة ومصالحها
الحكومية هو وسيلة وجدوا أنفسهم فيها، وقدموا خدمات عظيمة للأمة والإسلام من
خلالها.
نحن أمام نظام فاشل في جل الميادين، أهان مصر، وأهان تاريخها، وليس لديه ما يقدمه للشعب ولا للأمة، سوى القروض والبلاء وبيع مقدرات البلد، والشخصيات التي غادرت التنظيم لترتمي في حضنه حالها من حاله، فهي صفر المواهب والأخلاق، فليس لديها ما تقدمه.
وتتضح هذه النماذج في شخصيات كانت صاحبة هم
إسلامي، وبوصلتها واضحة: الدعوة للإسلام، بغض النظر عن اللافتة التي يعمل تحتها،
وهي نماذج لشخصيات مشهورة جدا ومعروفة، وجلهم كان في عهد الرئيس الراحل جمال عبد
الناصر، ومنهم من تبوأ مناصب، سواء كان وزيرا، أو كان مديرا لإدارة، أو مرتقيا
لمنبر من أكبر منابر
مصر والعالم الإسلامي، كان الإخوان في السجون، وكانت هذه
الشخصيات خارجه، فكان تركها التنظيم سببا لعدم تغييب صوتهم ورسالتهم، ولم يشغلوا
أنفسهم بالتنظيم ورجاله، ولا خلافاتهم معه، فلديهم موضوعات وقضايا أهم، وهو المد
الشيوعي والإلحادي الذي بدأ يبزغ في منابر مصر الثقافية، فرأوا من العبث الانشغال
بقضايا شخصية، على حساب قضايا الأمة الكبرى، وأنه ليس من العقل الحديث عن أخطاء
التنظيم مهما كانت درجة صحتها، على حساب غض الطرف عن كوارث أخلاقية ودينية تنخر في
جسد الأمة وشبابها.
من هذه الشخصيات الذين تولوا مناصب، الشيخ
أحمد حسن الباقوري، ومعروف سبب خلافه مع الإخوان، أن عبد الناصر رشحه لتولي وزارة
الأوقاف، ولم يكن هناك موافقة من الإخوان، فغادر الباقوري التنظيم، وذهب لتهنئة
مرشد الجماعة المستشار حسن الهضيبي، وقال له الباقوري: سامحني يا مولانا، شهوة
نفس، فقال له: اشبع بها، وبقيت علاقة الهضيبي بشخصيات إخوانية ربط بينهم عشرة
سنوات، فكانوا يقصدونه في خدمات عامة وشخصية لأشخاص يستحقون الخدمة، فكان يلبيها،
كما ذكر تفاصيل ذلك الأستاذ محمود عبد الحليم في كتابه: (الإخوان المسلمون.. أحداث
صنعت التاريخ).
وعندما خرج عدد من الإخوان الأزهريين من
السجون سنة 1956م، وكانوا عشرة أشخاص، كان منهم الشيخ يوسف القرضاوي، توسط لهم
ليعينوا في وزارة الأوقاف التي يتولاها، على ضمانته الشخصية، ومن يقرأ كتب
وتصريحات الباقوري لن يجد فيها ما يتعلق بتنظيم الإخوان، لا خيرا ولا شرا، لأنه
كان مشغولا ببناء وزارة الأوقاف، بعد عهد ملكي انقضى، وفي ظل عهد جديد، كان أحد
أعمدته الباقوري.
ولا ينقل عن الباقوري من مواقف متعلقة
بالتنظيم، سوى موقف واحد في الخفاء ولم يعلن، كان متعلقا بتهوينه أمر شنق عبد
القادر عودة، وتخفيف الأثر النفسي على عبد الناصر من هذا الفعل، في موقف ندم عليه
الباقوري، حين أصيب بالشلل، فلما كلمه أحد تلامذته مواسيا، قال: هذا ذنبي القديم
يا مولانا، مؤنبا نفسه على هذا الفعل.
وثاني هذه النماذج: الدكتور عبد العزيز
كامل، وقد كان مسؤولا عن التربية في الإخوان، وقد كتب مقالات عدة في نقد الأداء
التربوي في الجماعة، وذلك في عهد حسن البنا، ولما جاءت اعتقالات سنة 1954 قرر وهو
في السجن الحربي مغادرة التنظيم، والعمل بوسائل أخرى، وعين في أواخر عهد عبد
الناصر وزيرا للأوقاف، وقبل توليه الوزارة، كان مشغولا بكتابات ودراسات عن الإسلام
وتاريخه، وحين أعير للكويت بعد الوزارة، كان مثالا للعالم والمفكر الذي يمثل الفكر
الوسطي، وكل كتاباته كانت في هذا الخط.
الشخصية الثالثة، والتي كانت مشتبكة مع
التنظيم، وغادره بناء على مشكلة كبرى، وهو الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، فقد غادر
التنظيم بناء على قيامه باحتلال المركز العام للإخوان، ومعه الشيخ سيد سابق، وقد
كان هدف مجموعتهم إجبار المرشد على الاستقالة، ولكن الأمر انتهى بفصلهم من
التنظيم، وفي عنفوان الأزمة، كتب الغزالي كتابه: (من معالم الحق)، وقد تناول في
طبعة الكتاب الأولى مرشد الإخوان بالنقد اللاذع، وذكر فيه ما اقتنع به من مواقف،
في فصل جعل عنوانه: (السمع والطاعة).
ومن يقرأ كتب الغزالي في هذه المرحلة، سيجد
فصلا وحيدا قص فيه ما دار بينه والتنظيم من خلاف فكري وإداري، وإن كان أسلوبه حادا
باعتراف الغزالي نفسه، إلا أنه لم يفتر الكذب على أحد، بل ما ذكره من أخطاء وقع
فيها، كانت عن غير عمد، وعندما تبين له خطؤها تراجع عنها، ومن ينظر في مؤلفات
الغزالي بعد مغادرته التنظيم، سيجدها كلها من أهم ما كتب، حيث انطلق بكل ما أوتي
من مواهب لخدمة دينه، غير عابئ بالتنظيم ومشكلاته، وإن آلمه ما أصاب إخوانه من أذى
وظلم، ففرق بين أن تكون مظلوما، وبين أن تسعى لظلم الآخرين.
الحديث عن شخصيات غادرت التنظيم، وذهبت حاملة مشعل الحق والدعوة، هو حديث عن شخصيات وجدت وموجودة وستوجد، فالناس ليسوا على صفات واحدة، ولا تصنيف واحد، فالأمر يعتمد على التكوين الخلقي والديني للشخص، فالعاقل من يعرف من هو؟ وماذا يريد؟ وماذا لديه ليقدم؟
كتب الغزالي أكثر من عشرين كتابا، كانت ولا
تزال من أهم الكتب المعبرة عن حقائق الإسلام، وإزالة كل غبش عنه، لم يكن حظ
التنظيم والخلاف الذي بين الغزالي والتنظيم سوى صفحات قليلة، وفي طبعة تالية،
استدرك الغزالي على نفسه، ما كان فيه حادا، وما جانبه فيه الصواب، واعتذر عما أخطأ
فيه، وأبقى ما هو مقتنع به، وللأسف ظلت المنصات السلطوية التي تتبع السيسي ومنهم
شيوخ من حزب النور، وشيوخ صوفية تتبوأ مناصب في نظام السيسي منهم أسامة الأزهري
وغيره، يقتطفون عبارات من كلام الغزالي القديم، مدلسين على الناس بعدم ذكر تصحيحه
لما كتب، واعتذاره عن كلام ورد من قبل.
وكذلك انطلق الشيخ سيد سابق، والأستاذ البهي
الخولي، من خلال وزارة الأوقاف في عهد الباقوري وغيره، فعملوا للإسلام بوسيلة أخرى
غير وسيلة التنظيم، وأبلوا في ذلك بلاء حسنا، ورغم ما كان بينهم والإخوان كتنظيم
من خلاف، كان بحكم موقعهم الجديد تأتيهم بعض الحاجات لأشخاص لهم علاقة بالإخوان،
فكانوا يؤدون لهم هذه الخدمات، وهو ما تبين للسلطة وقتها، أن الاستعلامات العامة
في وزارة الأوقاف اكتشفت أن أكثر الأسماء ترددا طلبا للزيارة وتلبية للمصالح هؤلاء
المشايخ، وأكثر من يطلبون من الإخوان الحاليين أو السابقين، من أصحاب الحاجات.
النماذج في هذا السياق كثيرة، والسبب في
تقديري لعدم انشغال هؤلاء بالحديث عن التنظيم، أو محاربته، أو الانضمام للسلطة في
مناوئته، سببان في تقديري: سبب يتعلق بالسلطة، وسبب يتعلق بالشخصيات نفسها، فعبد
الناصر رغم عدائه مع الإخوان، كان لديه مشروع يسعى بجد لتحصيله، سواء اتفقت أو
اختلفت مع هذا المشروع، فلديه مشروع وحلم، ولديه أدوات يحاول الاستفادة منها، وإن
كان مشروعه في الحريات الداخلية هو أضعف ما لديه، ولذا كانت الكوارث الكبرى.
والشخصيات كانت ذات نفوس عالية، لا تقبل
بالتدني، ولا بالإسفاف، ولديها ما تقدمه، وحين طلب سنة 1965 من الشيخ الغزالي أن
يتكلم في الإذاعة شاتما الإخوان رفض، وقال: لدي آلاف الموضوعات عن الإسلام تفيد
الأمة، يمكنني الحديث عنها، فتم اعتقاله لأيام ثم أفرج عنه، فبوصلته واضحة، ولم ير
فائدة أم طائل وراء الحديث عن أشخاص غيبتهم السجون، وعندما يخرجون سيكون له حديث
معهم وجها لوجه، أما معركته الحقيقية المهمة فهي في ميادين أخرى، ولديه ما يقوم به.
أما أمنجية السيسي، فالأمر مختلف، نحن أمام
نظام فاشل في جل الميادين، أهان مصر، وأهان تاريخها، وليس لديه ما يقدمه للشعب ولا
للأمة، سوى القروض والبلاء وبيع مقدرات البلد، والشخصيات التي غادرت التنظيم
لترتمي في حضنه حالها من حاله، فهي صفر المواهب والأخلاق، فليس لديها ما تقدمه.
وهذا لا يمنع من وجود شخصيات صاحبة مشروع،
وصاحبة هدف، انطلقت به، ولم يفرق معها أن تعمل من خلال التنظيم أم بدونه، فهي فئة
موجودة بلا شك، ولكنها قليلة للأسف، ولا يبرز سوى الصوت الزاعق السمج، الذي لا
يقدم معلومة، ولا يعطي تحليلا، بل اختلاق وافتراء، وشرشحه، في ظل اهتراء التخصصات،
ليقدم بعض هذه الشخصيات تحت مسمى: إخواني سابق، وخبير الحركات الإسلامية.
الحديث عن شخصيات غادرت التنظيم، وذهبت
حاملة مشعل الحق والدعوة، هو حديث عن شخصيات وجدت وموجودة وستوجد، فالناس ليسوا
على صفات واحدة، ولا تصنيف واحد، فالأمر يعتمد على التكوين الخلقي والديني للشخص،
فالعاقل من يعرف من هو؟ وماذا يريد؟ وماذا لديه ليقدم؟
[email protected]