على بعد أمتار قليلة من معبر
رفح البري مع
مصر، تقف شاحنة ومقطورة مسطحة محمّلتان بصناديق مساعدات إنسانية مخصصة لقطاع
غزة، بعدما أعادها الاحتلال الإسرائيلي الأحد الماضي.
المشهد، الذي رصدته "رويترز"، أثار غضب سائقي الشاحنات واستنكار مسؤولين أمميين، وسط اتهامات متصاعدة للاحتلال بعرقلة وصول الغذاء والدواء إلى أكثر من مليوني فلسطيني محاصرين منذ نحو عامين تحت القصف والحصار.
وأكد سبعة مسؤولين إغاثة وثلاثة سائقين أن الاحتلال يعيد الشحنات لأسباب وُصفت بأنها "واهية"، تشمل ملاحظات بسيطة على التعبئة أو الأوراق، والتدقيق المفرط بحجة "احتمال الاستخدام العسكري المزدوج" لبعض المواد، فضلاً عن تقليص ساعات العمل على المعابر.
كانت الشحنة التي وثقتها عدسة "رويترز" الاثنين الماضي تحمل شعارات منظمة الصحة العالمية وملصقات تصف محتواها: أدوية موضعية وأجهزة شفط لتنظيف الجروح. لكن موظفاً في المنظمة أكد أن الاحتلال منعها بحجة احتوائها على "أدوية غير قانونية"، وهي مزاعم لم تتمكن الوكالة من التحقق منها بشكل مستقل. في المقابل رفضت وحدة تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية الرد على استفسارات الصحفيين حول سبب المنع.
انتقادات دولية
كانت الحدود المصرية مع غزة وجهة زيارة ميدانية نظمتها "مجموعة الحكماء" – التي أسسها الراحل نيلسون مانديلا وتدعم حل الدولتين – بمشاركة رئيسة أيرلندا السابقة ماري روبنسون ورئيسة وزراء نيوزيلندا السابقة هيلين كلارك.
عبّرت كلارك عن صدمتها من حجم المساعدات المعادة، وقالت للصحفيين: "المعبر يجب أن يكون مكاناً للتواصل وحرية الحركة، لا مكاناً للحصار والمنع. رؤية المعبر متوقفاً أمام الناس أمر صادم للغاية".
في 27 تموز/يوليو الماضي، أعلن الاحتلال الإسرائيلي عن إجراءات "لتسهيل" دخول المساعدات، بعد موجة غضب دولية أثارتها صور لسكان يتضورون جوعاً في غزة. لكن وكالات الإغاثة أكدت أن ما يدخل فعلياً لا يشكل سوى جزء ضئيل من الاحتياجات.
بحسب المكتب الإعلامي في غزة، دخل منذ الإعلان الإسرائيلي وحتى الآن 1334 شاحنة من مختلف المعابر، بينما المطلوب – وفق المعايير الأممية – هو 600 شاحنة يومياً، أي أكثر من 9000 شاحنة خلال الفترة نفسها.
وأوضح موظف في منظمة الصحة العالمية أن إجراءات الموافقات التي كانت تستغرق أياماً في فترات الهدنة، باتت الآن تمتد لشهر كامل على الأقل.
إجراءات جمركية جديدة
كما فرض الاحتلال في منتصف تموز/يوليو الماضي، شرط إخضاع المساعدات القادمة من مصر للتخليص الجمركي، ما أضاف وفق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "عقبات بيروقراطية وتكاليف إضافية" على وكالات الإغاثة.
ورغم أن مصر أعفت وكالات الأمم المتحدة من الرسوم بين 27 تموز/يوليو الماضي، و3 آب/أغسطس الجاري، فإن الإعفاء لم يُمدد رسمياً، ويُمنح حالياً للمنظمات غير الحكومية الدولية على أساس كل حالة على حدة، ويشمل المواد الصحية فقط.
وقد أعلنت وزارة الصحية في غزة وفاة أكثر من 200 شخص جراء الجوع وسوء التغذية منذ بدء الحرب، إضافة إلى أكثر من 61 ألف شهيد نتيجة القصف والعمليات العسكرية الإسرائيلية.
كما حذرت الأمم المتحدة من أن الأرقام الحقيقية قد تكون أعلى بكثير، في حين يشكك الاحتلال بهذه الإحصاءات، ويزعم أن ثلث الشهداء على الأقل من المسلحين.
معابر مغلقة وساعات عمل محدودة
قال السائق المصري كامل عطية محمد٬ إن من بين 200 إلى 300 شاحنة تحاول العبور يومياً، لا يُسمح إلا لـ30 إلى 50 شاحنة بالمضي إلى غزة. وأوضح أن معبر رفح من الجهة المصرية يعمل على مدار الساعة، لكن معبر
كرم أبو سالم الإسرائيلي – الذي تُجبر الشاحنات على المرور به – يغلق خارج ساعات الدوام الرسمية.
وأشار إلى أن الاحتلال يعيد الشاحنات أحياناً بسبب "غياب ملصق" أو "ميلان الحمولة" أو "عدم تغطيتها بالكامل"، وهي مبررات وصفها بأنها "غير منطقية".
ورغم عدم رد وحدة تنسيق أعمال الحكومة على الأسئلة حول ساعات العمل، فإنها قالت إن "مئات الشاحنات المحملة بالمساعدات تنتظر استلامها من الأمم المتحدة والمنظمات الدولية" على الجانب الفلسطيني.
كما أقام الهلال الأحمر المصري مستودعاً لوجستياً قرب العريش، على بعد 40 كيلومتراً من الحدود، لتخزين البضائع التي يعيدها الاحتلال.
شاهد مراسل "رويترز" هناك أنابيب أوكسجين، وكراسٍ متحركة، وإطارات سيارات، ومولدات كهربائية، وصناديق إسعافات أولية، تحمل شعارات منظمات إغاثة من دول بينها لوكسمبورغ والكويت.
وأكد موظفو الإغاثة أن إعادة الشحنات باتت "أمراً روتينياً". ففي اجتماع حضرته "رويترز"، كشف موظف ببرنامج الأغذية العالمي أن من أصل 400 شاحنة أرسلها البرنامج منذ أواخر تموز/يوليو الماضي، لم يدخل القطاع سوى 73 شاحنة فقط.
الأونروا خارج المعادلة
منذ آذار/مارس الماضي، تمنع سلطات الاحتلال وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) من إرسال المساعدات إلى غزة.
وأكد تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية الصادر في 6 آب/أغسطس الجاري أنه لم يُسمح بدخول أي مواد إيواء منذ 2 آذار/مارس الماضي، وأن المتوفر في الأسواق المحلية "باهظ الثمن وشحيح الكمية".
ويكشف المشهد على الأرض ملامح سياسة
حصار ممنهجة من٬ قوافل إنسانية متوقفة، عراقيل بيروقراطية متعمدة، معابر مغلقة لساعات طويلة، ومساعدات تعاد لأسباب شكلية، في وقت تتفاقم فيه المجاعة والأمراض وسط إنكار الاحتلال وتباطؤ المجتمع الدولي.
ويصر الاحتلال الإسرائيلي على أنه "لا يفرض قيوداً كمية" على المساعدات، ويزعم أن نحو 300 شاحنة دخلت يومياً خلال الأسابيع الماضية، لكن الأرقام الميدانية وشهادات السائقين والوكالات الإغاثية تروي قصة مختلفة تماماً٬ فغزة ما زالت تحت الحصار، والمساعدات تُمنع، والجوع يفتك بالسكان.