مقالات مختارة

إنهم يقتلون الجياع

جمال زحالقة
الأناضول
الأناضول
ارتفعت في الأسبوع الأخير بشكل حاد أعداد الذين يموتون من التجويع في قطاع غزة، ومنهم أعداد متزايدة من الأطفال، الذين يفقدون الحياة بسبب النقص الحاد في الغذاء، إضافة إلى العشرات الذين يموتون بسبب المجاعة، يقضي العشرات يوميا نحبهم بسبب نقص الأدوية والأجهزة الطبية وتدمير مقوّمات الرعاية الصحية اللازمة للمرضى والمصابين من مستشفيات وعيادات، ولا تدخل هذه الأرقام ضمن قائمة الإحصائيات اليومية لشهداء غزة، التي تقتصر على ضحايا القصف الإسرائيلي المباشر.

وفي ظل النظام العالمي المعطوب، تواصل إسرائيل ارتكاب جرائمها اليومية في غزة ولا تجد من يوقفها أو من يلجمها أو حتى من يضع بعض القيود عليها، وكان أقصى ما وصلت إليه الإدارة الأمريكية هو إعلان لإحدى المتحدثات الرسميات عن انزعاج الرئيس لأنه «في الأيام الأخيرة يموت ناس أكثر وهو لا يحب ذلك». ولم يأت هذا الإعلان لانتقاد لنتنياهو، بل بعد التأكيد على العلاقة الوثيقة والحميمية بين الرئيس ترامب وبينه.

يواجه أهالي غزة الردى بثلاثة خيارات قاتلة: الموت بالقصف، والموت جوعا، والموت لنقص العلاج. والثلاثة في حالة تفاقم فتّاك، والعالم، بما في ذلك العالم العربي، يكتفي بإصدار بيانات ومواقف لا تتلوها أفعال جدية. ووفق أبسط مبادئ ومعاني القواعد والأخلاق الإنسانية، فإن كل من يستطيع وقف الجريمة ولا يفعل فهو متواطئ معها، وحتى شريك فيها، ومن لا يُحاسب اليوم فسيحاسبه التاريخ: كيف ترك المجرمين ينفلتون في قتل الأطفال والنساء والجياع، ولم يفعل شيئا لإنقاذهم من القتلة.

المحاولة الوحيدة القائمة هذه الأيام لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في غزة، هو المفاوضات الجارية في الدوحة للتوصل إلى صفقة مرحلية تشمل وقف الحرب لمدة شهرين، مع دخول المساعدات الإنسانية واللوازم الصحية خلال تلك المدة، لكن إطالة فترة التفاوض، تُستغل إسرائيليا كأداة في التنفيذ الميداني اليومي لحرب الإبادة الجماعية، ويأتي الرد الأمريكي وفي بعض الأحيان الإسرائيلي والعربي وحتى الفلسطيني على سؤال إلى متى الحرب؟ بالدعوة للانتظار وللتعويل على المفاوضات، كمسار وحيد لوقف جريمة غزة المستمرة. مشكلة المفاوضات أنها طويلة، وفي كل «يوم تفاوض» يفقد المئات حياتهم في حرب الإبادة المتواصلة.

والسؤال كيف يمكن أن تنتهي الحرب طالما الولايات المتحدة مرتاحة ومطمئنة لعدم تأثير مشاركتها الفعلية في حرب الإبادة في غزة على علاقاتها الاقتصادية والاستراتيجية مع الدول العربية والإسلامية؟ كيف يمكن لإسرائيل أن توقف مجازرها في غزة وهي لا تتعرّض لضغوط جدية من الدول المؤثّرة عليها، ولا حتى من الدول العربية المطبّعة والمرشّحة للتطبيع؟ وكيف للعالم أن يتحرك بجدية والعالم العربي لا يفعل شيئا سوى التنديد والتعبير عن القلق.

كارثة المجاعة في غزة تتفاقم بشكل مهول، وتدل تقارير المنظمات العالمية التي ترصد معطيات «جوع غزة»، استنادا إلى تحليل «تصنيف مراحل الأمن الغذائي ـ آي. بي. سي» أن سكان غزة جميعا يعانون من مستويات خطيرة جدا من الجوع، وأكثر من 90% منهم يقاسون «الانعدام الحاد للأمن الغذائي ـ المرحلة الثالثة على الأقل»، ومن بينهم نحو 925 ألفا (44%) في المرحلة الرابعة وهي «نقص غذائي شديد، وفي أقل تقدير حوالي 244 ألفا منهم (12%) يعيشون في مرحلة «جوع حاد قد يؤدّي إلى موت ـ المرحلة الخامسة والأعلى».

والأوضاع تتدهور سريعا والموت جوعا ينتشر أكثر فأكثر، وصار من اللازم التوجّه للهيئات الدولية المعنية، وفي مقدمتها منظمة الأمم المتحدة، بالإعلان رسميا عن «حالة مجاعة» في غزة للحث على التدخل العاجل لإنقاذ حياة الغزيين والغزّيات. قد يقول البعض إن مثل هذا الإعلان لن يؤثّر ولن يؤدّي إلى تغيير مهم في أحوال الناس في غزة، لكنه، على الأقل، سينقل المسألة من نقاش حول مجاعة محتملة مستقبلية إلى واقع معاش في الزمن المضارع، ما قد يحرّك بعض الضمائر النائمة والإرادات المعطّلة.

لا يكتفي نظام الإبادة الجماعية الإسرائيلي بقتل الناس بحرمانهم من الطعام، بل يطلق جنوده النار على الجوعى، الذين يتوافدون إلى مراكز توزيع رزم الطعام أملا بتوفير ما يحمي حياتهم وحياة عائلاتهم من الموت جوعا. وهذا القتل ليس وليد قرار محلي لضابط إسرائيلي، ولا هو ناجم عن ظروف معينة نشأت في موقع ما، بل نتيجة مباشرة للأوامر الرسمية للحكومة وللجيش، وتنص هذه الأوامر بلغة ملتوية إلى عدم تعريض حياة موظفي «مؤسسة غزّة الإنسانية» للخطر، وتترجم هذه الأوامر عمليا إلى إطلاق النار بلا حدود، حين يظن الجندي أو الضابط أن هناك خطرا أو ظل خطر.

لكن، حتى حين لا تلوح أي شبهة لخطر، يستطيع الضباط إصدار أوامر قصف الجموع، استنادا إلى أوامر عسكرية واضحة بالتواصل مع الجياع بالنيران، وهو ما كشفه الصحافي الإسرائيلي نير حسون. والتواصل بالنيران يعني توجيه الرسائل إلى المتوافدين إلى «مراكز توزيع الطعام» عبر إطلاق النار عليهم، لإجبارهم على الابتعاد، أو حتى لتوجيههم من مكان إلى آخر.

لقد وصل عدد ضحايا سيطرة إسرائيل المباشرة على توزيع المساعدات الإنسانية إلى ما يزيد عن ألف شهيد، وليس واضحا إلى الآن أيهما أكثر؟ الذين يموتون من الجوع؟ أم الذين يحاولون الحصول على الطعام حتى لا يموتوا من الجوع؟

المجاعة في قطاع غزة هي نتاج لسياسة إسرائيلية ممنهجة ومقصودة، لها أهداف محدّدة في إطار مخطط التهجير ولتأليب الناس على حركة حماس، وهي ليست «مجرد نتيجة جانبية» للحرب. ولو كان في الدنيا إنصاف وجرت محاكمة عادلة للمجرمين المسؤولين عن تجويع أهالي غزة، لكانت إسرائيل في قفص الاتهام كمتهم أول، ومعها بعض من ساعدها في تنفيذ الجريمة وبالأخص الولايات المتحدة.

لقد وصلت الوقاحة الإجرامية في إسرائيل إلى درجة الادعاء أن الدولة الصهيونية ليست مسؤولة عن المجاعة في غزة، وأن لا ذنب لها في الأمر، وهي تقول ذلك في الوقت الذي تحجب فيه دخول ما يحتاج أهالي قطاع غزة من طعام وأدوية ووقود وبقية اللوازم الأساسية، وبعد أن دمّرت بالكامل الإنتاج الغذائي في غزة وقضت على إمكانيات توفير الطعام محليا.

تواجه إسرائيل الاتهامات المتزايدة بأنها تتسبب في مجاعة في غزة بإنكار وجودها في غزة وتدعي أن التقارير الدولية منحازة وغير موضوعية. وتدعي إسرائيل أيضا أن النقص في الغذاء ليس مردّه القيود الإسرائيلية المفروضة على دخول المساعدات، بل لأن حماس تسرقها وتبيعها. وصرّح وزير الأمن الإسرائيلي مؤخّرا «نحن نسمح بدخول مساعدات كافية.. وإن كان هناك نقص، فالمسؤولية تقع على حماس التي تسرق الغذاء».

وتصر إسرائيل على عدم السماح للمنظمات الدولية بإدخال وبتوزيع الطعام لأهالي غزة، بالادعاء أنها تتعاون مع حركة حماس. واتخذت الحكومة الإسرائيلية قرارا بالعمل مع «مؤسسة غزة الإنسانية» على السيطرة الكاملة والمباشرة على توزيع الرزم الغذائية في غزة. وحين يُسأل القادة الإسرائيليون عن المجاعة يقولون «نحن ندخل الطعام ونراقب توزيعه»، ما معناه أن «مؤسسة غزة الإنسانية» هي غطاء للتجويع، عبر توزيع الغذاء على القليلين، وترك الأكثرية تعاني من الجوع.

فحتى إذا صدّقنا بيانات «منظمة غزة الإنسانية» حول كمية الوجبات الغذائية التي وزّعتها فهي بالكاد تصل إلى 10-15% من احتياجات أكثر من مليوني إنسان في غزة.

ولو اعتبرنا ما تقوله هذه المؤسسة عن القيمة الغذائية الموجودة في رزمها، فهي بالتأكيد لا توفّر الطعام المناسب لمرضى القلب والكلى وللمصابين بالسكري. ولعل أصعب ما في الأمر هو انعدام «طعام الأطفال»، ما يسبب في موت الكثير منهم، في ظل عدم قدرة الأمهات الجوعى على الإرضاع.

وقد شكت الممثلة الإسرائيلية -الأمريكية نوعا تشبي، التي تقود إحدى حملات الدعاية الإسرائيلية، من أنّها «انخرست» حين واجهها أحدهم بسؤال: «لماذا تمنع إسرائيل دخول حليب الأطفال إلى غزة»، وطالبت بإدخاله خدمة لأغراض الدعاية. وتظهر الدوافع الحقيقية خلف سياسة التجويع الإسرائيلية، في خطاب التحريض على التجويع، الذي يظهر بقوة في الإعلام، وفي تصريحات القيادات السياسية من وزراء وأعضاء كنيست.

فعلى سبيل المثال، دعا الجنرال – احتياط، غيورا آيلاند، إلى اتباع سياسة التجويع لإجبار الناس على المغادرة إلى المناطق التي تحددها إسرائيل، كما طالب بتحويل القطاع إلى منطقة غير ملائمة لحياة البشر. ويظهر جليا من الخطاب الإسرائيلي أن السياسة الرسمية المتبعة هي «هندسة الجوع» واستعمال الطعام سلاحا لتحقيق أغراض إجرامية في مقدمتها الدفع باتجاه اتجاه تهجير وترحيل أهالي غزة.

إنهم يقتلون الجياع، إمّا بالمزيد من التجويع أو بوابل الرصاص والقذائف، ولا أحد إلى الآن يعترض طريقهم وهم لم يتعبوا بعد من القتل والتدمير والتجويع. لن تتوقف هذه الإبادة من تلقاء ذاتها، ولا بفعل أمريكي الذي هو «ذاتها». المسؤولية تقع كاملة على القيادات العربية والفلسطينية، ولا وقت للانتظار وكل من لا يفعل ما يستطيع لوقف مقتلة غزة فهو شريك فيها، مهما أشبعنا من شعارات. هناك حاجة لأفعال لا لبيانات لا تغني عن جوع!

القدس العربي
التعليقات (0)