مقالات مختارة

غزة تجوع في زمن التخمة

عبد الناصر بن عيسى
جيتي
جيتي
الأخبار المتواترة، بل المشاهد الناطقة، التي تصل من غزة عن هلاك أطفال وبالغين، جوعا، هي وشم عار على سبابة أمة تتباهى بعددها “الملياري”، وبخيراتها الباطنية والسطحية من مياه المحيط إلى مياه الخليج، حتى إن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وهو عائد من جولته السابقة إلى الخليج العربي، حاملا حقيبة المال الشهيرة، لم يكن يعلم من “ضخامتها” الكمّ المالي الذي أتخموه به، فكان في كل إطلالة إعلامية يقول رقما يختلف عن أرقام سابقة، ولكنه في الحقيقة هو رقمٌ فلكي، لو ضخه في بنك أمريكي، لبنى بفوائده بعد سنة، بلادا أمريكية أخرى.

في مأساة أهل غزة، لا يمكن أن نحمّل الطغمة الإرهابية الحاكمة للكيان وحدها، مسؤولية ما يحدث من إبادة وتجويع، فغزة موجودة بين أحضان أرض عربية، تطل نوافذها على أبناء العرق والدم، لو تجرّأ أحدهم ونقل الرغيف، بإصرار، ما أطلقت عليه القوات الصهيونية رصاصة واحدة.

لقد منّ الله على أحفاد سيد الكرم حاتم الطائي، بثروات جعلتهم الأغنى في العالم، خاصة في هذا العصر الصناعي الذي صار فيه الغاز أغلى من الذهب، ولو حُوّلت زكاة فطر ملياري مسلم، أو أضاحي حُجّاجهم إلى غزة، ما جاع طفلٌ واحد، ولكنه الصمت الرهيب والغريب والعجيب هو ما أمضى شهادة وفاة العرب التي كان ينتظرها نزار قباني في قصيدته الشهيرة “متى يعلنون وفاة العرب؟”.

في زمن فقَد فيه الشرّ فرامله، وانتهت فيه مدة صلاحية الخير، وما عادت أمة المسلمين خير ما أخرج للناس، صرنا نشاهد يوميا أكفانا رثة “تقمّط” أطفالا بحجم أشباح، بتقرير طبي يدوّن الجوع سببا للموت.

قرأنا دراسة طبية حديثة تناولت مشاكل السكري والسّمنة وارتفاع ضغط الدم، فوضعَت ما لا يقلّ عن ستة بلدان عربية في المقدمة، وربط التقرير الطبي سبب هذه المشاكل الصحية، بالشراهة والتخمة وتناول الطعام ما لذّ منه وطاب وما أسمن منه وأمرَضَ، بكميات تزيد عن إمكانات التخزين المَعدّية.

واطّلعنا على دراسة طبية صدرت عن منظمة الصحة العالمية، تناولت مشاكل الوهن الذي أصاب الشعب الغزاوي، فوضَعَت ما لا يقلّ عن تسعين بالمئة من سكان القطاع على حافة الهلاك، جوعا وعطشا.

ولكم أن تتركوا القراءة جانبا، وتقارنوا بين المشهدين، وهل توجد علاقة بين الجائع حدّ الموت، والمتخم أيضا حدّ الموت؟

هناك أغان فيروزية وأفلام وحتى أشعار لا بدّ من أن تتغير، برغم روعتها ورقيّها، فقد انتظر نزار قباني إعلان “وفاة العرب” في قصيدة خالدة:

أنا منذ خمسين عاما.
أراقب حال العرب.
وهم يرعدون، ولا يُمطرون…
وهم يدخلون الحروب، ولا يخرجون…
وهم يعلكون جلود البلاغة علكا
ولا يهضمون…
رأيت العروبة معروضةً في مزاد الأثاث القديم…
ولكنني… ما رأيت العرب!

عفوا نزار، فما عادوا يرعدون ولا يمطرون ولا يدخلون الحرب حتى يخرجوا، ولا يلوكون البلاغة فهم جاهلون.

أمّا عن إعلان “وفاة العرب”، فقد حدث فعلا، مع موت أول طفل فلسطيني جوعًا.

الشروق الجزائرية


التعليقات (0)

خبر عاجل