قضايا وآراء

خرائب الطائفة والعشيرة والوطن

نزار السهلي
"الرد على طلب الحماية الإسرائيلية والعدوان على سوريا، جاء بتفعيل دور النزعة العشائرية"- جيتي
"الرد على طلب الحماية الإسرائيلية والعدوان على سوريا، جاء بتفعيل دور النزعة العشائرية"- جيتي
أسئلة كثيرة تُطرح على ضوء الأحداث التي طرأت على الجنوب السوري، في السويداء ودرعا، ثم استهداف إسرائيل للعاصمة دمشق بعدوان على مبنى الأركان العامة للجيش، فهل ما حصل من اصطفاف طائفي، وتجييش عصبوي، واستنفار عشائري، يتطلب شكلا جديدا من التعاطي على الساحة السورية؟ وهل ذلك له علاقة بأزمة السلطة الجديدة فقط بعد سقوط نظام الأسد، والتي تشهد حالة من الإرباك والعجز، ولا تستطيع مؤسساتها الوليدة التكيف مع واقع جديد، له مهمات شاقة في بناء الدولة على أساس المواطنة والديمقراطية وإشاعة الحريات؟

الكثير من الأسئلة تُطرح في هذه الأوقات العصيبة التي تمر بها سوريا، نتيجة الاستنفار الطائفي العشائري، بعضها متعلق بالإشكاليات التي تعيشها السلطة في دمشق، ومرتبط أيضا بنصف قرن من الفشل المتراكم لحقبة نظام البعث والأسد، وكل ذلك له صلة محورية وأساسية بمحاولة الاحتلال ترسيخ فشل النموذج السوري للتحرر وبناء دولة المواطنة والحريات، عبر التدخل المباشر.

يحاول الاحتلال بَعْث هذه المحاولات لتفتيت نسيج المجتمع السوري، ليس بخطط ومؤامرات غير مرئية بل بالعدوان السافر؛ للإيهام بأن عدوانه يهدف لحماية أقلية معينة "بطلب منها"؛ في مجتمع تشكل هذه الأقلية مكونا أساسيا من هوية المجتمع العربي السوري

وقبل الإجابة على هذه الأسئلة، علينا تثبيت عدد من الحقائق والظواهر والمسلّمات: أولها، أن مطلب بناء دولة المواطنة والمؤسسات على أسس تحررية وتعددية، أوقعت عموم الشعب السوري تحت خطر واحد، وجرائم واحدة، وقهر شامل امتد لعقود طويلة، فكانت كل مكونات الشعب السوري بكل طوائفه، ضحية لإجرام وظلم النظام السابق، الذي سَخّر خطابا وسلوكا طائفيا وعشائريا للالتفاف على مبادئ أساسية، لتبيت أركان حكمه بتشتيت وتقسيم المجتمع، من خلال شراء ذمم عشائرية وفئوية عائلية، والاعتماد على فرق طائفية مذهبية في ارتكاب الجرائم. يحاول الاحتلال بَعْث هذه المحاولات لتفتيت نسيج المجتمع السوري، ليس بخطط ومؤامرات غير مرئية بل بالعدوان السافر؛ للإيهام بأن عدوانه يهدف لحماية أقلية معينة "بطلب منها"؛ في مجتمع تشكل هذه الأقلية مكونا أساسيا من هوية المجتمع العربي السوري، كما بقية المكونات والهويات التي من المفترض تنتمي لنفس الأمة كمواطنين سوريين على وحدة جغرافية واحدة.

الرد على طلب الحماية الإسرائيلية والعدوان على سوريا، جاء بتفعيل دور النزعة العشائرية، وبطلب الحماية أو الفزعة من مكون عشائري يتقاسم الجغرافيا والهواء والتاريخ مع أشقائه، وبإطلاق تهمة العمالة والتخوين للطائفة برمتها وللعشيرة وللمنطقة والمدينة.. الخ، وبتبادل السوريين نزع الوطنية عن بعضهم بشكل مرعب، بما لا يؤسس مخرجا للأزمة، بل وراثة لمأزق غطس فيه نظام الاستبداد لعقود.

لذلك، يغدو طلب الفزعة والهوشة، طائفية كانت أو عشائرية أم مذهبية، ذا تأثير كارثي في تصدع المجتمعات، فهذا الشكل من التفكير والسلوك ضمن الجماعة والطائفة والحارة، لا يبني دولة ولا ينقذها، ولا يرسخ مبدأ العدالة والمحاسبة والقانون على أساس المواطنة، فطلب الفزعة لمظالم سياسية واقتصادية واجتماعية، على أساس تعصبٍ طائفي وانتماء مذهبي وعشائري، هو انزلاق حاد نحو التسلط والتفكك، وإرضاء لنزعة حب السيطرة وتفتيت المجتمع، وطلب المؤازرة من عدو خارجي ومحتل، يقود لترسيخ استخدام العنف بين مكونات مجتمع ما قبل المواطنة، وكلها أسباب تؤدي لزرع الحقد والعدوانية ضد الذات والآخر من نفس المجتمع. ومسؤولية أي سلطة ونظام حكم؛ بنيته الذهنية ليست قائمة على القوة وفرض القهر والظلم، تتلخص في تحقيق مبادئ العدالة والمواطنة والحريات، ونقيض ذلك هي أساليب المستبد والمحتل لبث شعور مزيف بالتهديد عند أقليات وطوائف، للهروب من استحقاقات تتعلق ببناء الدولة وتعزيز مفهوم الحرية والديمقراطية والمواطنة والشفافية والمحاسبة. وعليه، فالتفكير ضمن جماعات وعشائر وأقليات وأكثريات يمثل جوهر الكارثة التي يحاول البعض إبقاء سوريا في قعرها.

في سوريا ما بعد الأسد، يجري التركيز على إضعاف دور الدولة المنهارة أصلا بسبب حقبة استبداده، والدولة بوصفها مرجعية للمواطنة السورية المنشودة، تعرضت في السابق لعملية تهميش وتذويب لدورها في إضفاء الأمن والاستقرار، وتحقيق مبادئ العدالة التي من المفترض أن تكون ناظما للعلاقة بين الشعب والدولة بوصفها أيضا حامية لكل المواطنين

في سوريا ما بعد الأسد، يجري التركيز على إضعاف دور الدولة المنهارة أصلا بسبب حقبة استبداده، والدولة بوصفها مرجعية للمواطنة السورية المنشودة، تعرضت في السابق لعملية تهميش وتذويب لدورها في إضفاء الأمن والاستقرار، وتحقيق مبادئ العدالة التي من المفترض أن تكون ناظما للعلاقة بين الشعب والدولة بوصفها أيضا حامية لكل المواطنين وفق مبدأ العالة والمحاسبة، فغياب هذا الافتراض عقودا طويلة كان ثمنه تضحيات جساما وتركة محطمة لهذه الدولة. وبالنظر لتداعيات ما يجري في السويداء والجنوب السوري، من استخدام وتسخير الطائفية والطائفية المضادة، والعشيرة، والدولة المحطمة بسلوكيات عدوانية نحو الذات والآخر، يضعف شعور الانتماء للوطن والمواطنة بنزوع نحو "الطائفة" و"العشيرة" التي تعلو فيهما أصوات المتطرفين، مع طغيان لغة الغريزة على لغة العقل، وتعزيز شعور الانتماء إلى أقلية وأكثرية، على حساب المواطنة، والتصرف كجماعات لا كمواطنين ومؤسسات في ظل الأزمات والاضطرابات.

الأزمات الاجتماعية لا تأتي بجديد، إنما تنقل ما هو موجود في اللاشعور، الى ساحة الشعور ومن مرحلة الهمود الى مرحلة النشاط، كما يقول الكاتب ميشيل روكيت في كتابه "الشائعة والجريمة".

والمشكلة اليوم في السويداء وقبلها في الساحل، ليست لوجود مكون سوري ينتمي لأقلية طائفية، فهذا وجود تاريخي، كما بقية المكونات بأكثرية أو أقل، ولا برغبة بعض هذه الطوائف للتمايز عن بقية المجتمع كما جرت العادة إبان الحقبة الأسدية، كل هذه المشاكل وغيرها تذوب وتضمحل في الأنظمة الديمقراطية وفي دولة الرفاه والقانون والمحاسبة، فالخطر يقع على كل المواطنين، والخراب يشمل الطائفة والعشيرة والوطن، إذا لم تترسخ لدى كل السوريين أكثرية وأقلية قناعة مفادها: أن التخلص من هاجس الخطر والإحساس الدائم بالتهديد قد حصل بالفعل بالتخلص من نظام استبدادي مجرم، وأن على الدولة والسلطة الجديدة مهمة تثبيت معادلة دولة المواطنة والقانون والحريات والمحاسبة.

واليوم الكل عارٍ بعد خلع ثوب المظلومية وارتداء ثوب الضحية، لتبرير العنف والقتل والمذابح بذريعة بمسؤولية الآخر من نفس المجتمع بأنه يرتدي ثوب الجلاد، بينما المجرم والقاتل والمحتل والجلاد، يراقب المشهد السوري والعربي والفلسطيني ويقدم له علاجا يدمر الوطن والمواطن ليعيشا في خرائب العشيرة والطائفة والجماعة.

x.com/nizar_sahli
التعليقات (0)