مدونات

ندى.. الطفلة التي أبكاها النشيد

آية عيد الطرشاوي
"كانت طفلة، كل ذنبها أنها وُجدت في زمن قاسٍ لا يرحم الطفولة"- جيتي
"كانت طفلة، كل ذنبها أنها وُجدت في زمن قاسٍ لا يرحم الطفولة"- جيتي
كانت فتاة صغيرة بجسدها، لكن بعقلها وداخلها كانت أكبر من سنينها، اسمها ندى، لم تكن تتجاوز الثامنة من عمرها.

وبينما كنت أنا طالبة في الصف التاسع، أجلس ذات صباح مع صديقتي شيماء على درج المدرسة، نتبادل أحاديث الطفولة والمراهقة، حين اقتربت منا فتاة صغيرة بعيون لامعة، مزيج من البراءة والحزن.

قالت لي بصوت خافت: "هل تحبين أن أغني لكِ نشيدا؟".

ابتسمت لها وقلت: "نعم، غنّي لي يا صغيرتي".

وقفتْ بثقة، وبدأت تُنشد: "أمي يا نبع الحنان"..

لكن فجأة، توقف صوتها، سكتت.. ثم انهارت بالبكاء.

صُدمت من ردّ فعلها، ركضتُُ نحوها واحتضنتها بقوة، قلت لها بلطف:

"ما بكِ؟ أنا هنا، لا تخافي".

بكاؤها هدأ قليلا، ثم بدأت تحكي..

قالت إن اسمها ندى، وإن والديها انفصلا وهي في عمرٍ لم تدرك فيه بعد معنى الانفصال. لديها أخوان، محمد وعمر، أصغر منها سنا. وبعد الانفصال، تزوج والدها امرأة قاسية، وكذلك فعلت أمها، وكل منهما انشغل بحياته الجديدة.

ندى بقيت مع والدها، لكنها لم تجد الأمان. زوجة أبيها كانت متسلطة، تحرمها من الطعام، تجبرها على أعمال المنزل الشاقة، تضربها، وتمنعها من مصروفها، بل وتحرمها من أبسط حقوق الطفولة.

قالت لي: "أنا مشتاقة لأمي، مشتاقة لحضن حقيقي.. بس ما بحكي لحدا، بخاف".

عانقتها بشدة وقلت: "أنا معكِ، ولن أتركك مهما حدث".

فردّت بصوت يرتجف: "رجاء، لا تذهبي.. هذا صفي الوحيد، لا تتركيني".

طمأنتُها، ووعدتها: "أنا معكِ دائما، وسأبقى إلى جانبكِ، للأبد".

ومن يومها، لم تعد ندى مجرد طفلة قابلتُها صدفة، بل صارت وعدا يسكن قلبي.

ثم بدأت الحرب.. وتغيّرت الحياة.. توقفت المدارس، وتقطعت الأخبار، ولم أعد أعلم شيئا عن ندى..

كنت أفتقدها بصمت، وأسأل نفسي: ترى، كيف حالها الآن؟ هل لا تزال تحفظ نشيدها؟ هل أحد سمع بكاءها واحتواها بعدي؟ حتى جاء ذلك اليوم.. حين أخبرتني جدتي، بهدوء ممزوج بألم: "ندى.. ماتت".

كأن قلبي توقف، كأن النور انسحب من العالم للحظة. لم تكن في المدرسة، لم تكن في مكانٍ أعرفه. رحلت بصمت، كما عاشت..

كانت طفلة، كل ذنبها أنها وُجدت في زمن قاسٍ لا يرحم الطفولة.

ندى استشهدت، ولم أكن بجانبها. لكن وعدي لها باقٍ.. سأظل أذكرها، وأحكي عنها، وأدعو لها؛ لأن ندى، كانت أكثر من طفلة.. كانت وجعا لم يرحل، وندبة لم تلتئم.

ما زلت أبكي وكأنها الليلة الأولى من فراقك. سأكتب من وجعي إن لم يكفني الحبر.

(كاتبة وشاعرة  من غزة- فلسطين)
التعليقات (0)