منذ سيطرة قوات الدعم السريع على المثلث الحدودي بين
مصر وليبيا والسودان، وطرد قوات الجيش السوداني من صحراء السودان الشمالية الغربية، في 11 حزيران/ يونيو الماضي، تثار المخاوف على أمن مصر القومي، خاصة مع الأهمية الاستراتيجية والأمنية للمثلث الواقع عند جبل العوينات (2000 كيلومتر) بالصحراء الكبرى.
الواقعة كشفت عن اتّخاذ صراع الجيش السوداني، وقوات الدعم السريع بقيادة حمدان دقلو (حميدتي) منذ نيسان/ أبريل 2023، بعدا إقليما خطيرا، وتداخل أطراف خارجية، خاصة مع اتهام رئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان، للواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر، والإمارات، بمساندة حميدتي، ما زاد المشهد تعقيدا، وفق مراقبين.
تغيير الوضع الأمني في المثلث الحدودي في قطاع جارة مصر الجنوبية، أثار مخاوف القاهرة الأمنية من عمليات تهريب السلاح، والمهاجرين -نزح نحو 14 مليون سوداني بسبب الحرب- إلى أراضيها ونحو أوروبا، عبر المنطقة ذات التضاريس الوعرة، والتي تمثل أهمية اقتصادية خاصة مع اكتشاف الذهب والمعادن هناك.
"تحرك مصري وأجواء مثيرة"
إثر ترقّب مصري طال مدة 19 يوما من الأزمة، تحركت القاهرة، الاثنين الماضي، حيث استقبل رئيس النظام المصري، عبد الفتاح
السيسي، بالقصر الرئاسي في مدينة العلمين الجديدة القريبة من الحدود الليبية، خليفة حفتر رفقة نجليه صدام وخالد، صباحا، ثم عبد الفتاح البرهان، مساء، في لقائين منفصلين ومتتابعين بحضور رئيس المخابرات المصرية، حسن رشاد.
الرئاسة المصرية، أشارت إلى العناوين المعتادة في تلك اللقاءات، ملمّحة لمطالب السيسي بسحب القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا وتحذيره من مخاطر التدخلات الخارجية بالجارة الغربية، وبملف السودان، مناقشة موضوع الأمن المائي والإجراءات الأحادية في حوض النيل الأزرق وتأثيره على القاهرة والخرطوم.
وسبق حضور حفتر لمصر زيارة نجله صدام الذي يجري تسويقه كمرشح رئاسي محتمل بالشرق الليبي، حيث التقى السيسي، في 26 حزيران/ يونيو الماضي، فيما اعتبره مراقبون زيارة تمهيدية لعودة حفتر للتوافق مع القاهرة التي تدعمه منذ العام 2014، بعد ما بدا أنه خلاف في توجهات الجانبين في ملف السودان وأمور أخرى بينها دعم حميدتي بالسلاح والمرتزقة.
كما أنه وقبل زيارتي، حفتر، والبرهان، تلقّت القاهرة، رسائل من الأول يعلن رغبته القيام بدور الوسيط بين الجيش السوداني وقوات الحشد السريع، التي يبدو أنها هي الأخرى غيرت من لهجة حديثها عن القاهرة، معلنة رغبتها في التحاور والتعاون مع السلطات المصرية، ما يزيد المشهد غموضا، ويثير التساؤلات حول ما قد تحمله الزيارتين والأيام القادمة.
وأشار خبراء في الشأن الإفريقي إلى أنّ: "الزيارتين قد يتبعهما تغييرات لافتة، في الملف الليبي بشكل خاص، حيث علّقت الأكاديمية المصرية، أماني الطويل، على زيارة البرهان، بالقول: متغيرات كثيرة قادمة".
ويتلاقى حضور حفتر والبرهان، مع ضغوط أوروبية
لإنهاء الصراع الليبي، ومع ما قالته مصادر غربية تحدثت إلى وكالة "نوفا" الإيطالية عن تسوية قريبة للملف الليبي، بالتزامن مع حراك دبلوماسي أمريكي لتسوية أزمة الدولة العربية التي تقع جنوب البحر المتوسط وتمتد إلى الصحراء الكبرى.
"مصر والمشهد الليبي"
رغم امتداد الأزمة الليبية بين الشرق والغرب لنحو 11 عاما، لا يزال المشهد السياسي الليبي في منتصف 2025 معقدا خاصة مع تداخل لاعبين إقليميين ودوليين، في ملف يمثل أهمية قصوى لمصر، ظهرت فيه تركيا، والإمارات.
لا تزال ليبيا مقسمة بين حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة في طرابلس (الغرب)، والحكومة المكلفة من برلمان طبرق (الشرق) برئاسة أسامة حماد، والمدعومة من خليفة حفتر، بل إن طرابلس شهدت في أيار/ مايو وحزيران/ يونيو الماضيين، اشتباكات فصائل مسلحة تابعة لحكومة الدبيبة.
وتشير الأنباء إلى أنّ برلمان طبرق يتجه خلال الأيام القادمة نحو المصادقة على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع تركيا، التي وقعتها حكومة الوفاق الوطني تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، ومازالت تثير اعتراضات اليونان.
رغم تحسن العلاقات بين تركيا ومصر إلا أن توقيع برلمان طبرق على الاتفاقية يستدعي قلق القاهرة، إلى جانب ملف آخر وهو الحضور العسكري التركي وفقا لاتفاقية دفاعية مع طرابلس في ذات العام، إلى جانب وجود المرتزقة والمقاتلين الأجانب في البلاد.
ومع احتفاظ تركيا بعلاقاتها مع حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، إلا أن صدام حفتر قام بزيارة رسمية إلى أنقرة، استقبله فيها قائد القوات البرية التركية، الجنرال سلجوق بايراكتار أوغلو، في نيسان/ أبريل الماضي، وسط حديث عن تراجع الدعم التركي للدبيبة.
اظهار أخبار متعلقة
مصر والوضع السوداني
لنحو عامين وشهرين تواصل الآلة العسكرية في السودان تعقيد المشهد السياسي والأمني والاقتصادي والمائي للبلد الثالث عربيا من حيث المساحة (1.88 كيلومترمربع)، والثاني بعد مصر بعدد سكان يقدر بـ48.5 مليون نسمة.
وحتى مطلع تموز/ يوليو الجاري، يواصل الطرفان القتال في الخرطوم ودارفور وكردفان، ما يفاقم تأثر الجارة الشمالية مصر من أزمة النازحين نحو الحدود المصرية للإقامة بها أو للانتقال منها إلى أوروبا، فيما تشير الأرقام إلى نزوح نحو 1.2 مليون سوداني إلى مصر.
وفي شباط/ فبراير الماضي، رفضت القاهرة محاولات حميدتي وبعض داعميه لتشكيل حكومة سودانية موازية من العاصمة الكينية نيروبي، بينما تواصل دعم حكومة البرهان، الذي شكل حكومة جديدة برئاسة كامل إدريس.
ورغم أن مصر تشدد على رفض أي تدخلات خارجية في الشأن السوداني حفاظا على أمنها القومي والمائي، لم تبد حكومة القاهرة، أية ردود فعل رسمية غاضبة إزاء التدخل الإماراتي في الأزمة وتقديم الدعم لحميدتي، وفقا لاتهامات حكومة البرهان.
"نزع حفتر من يد الإمارات"
في تعليقه على تتابع الزيارتين ودلالاتهما، قال المحلل السياسي والباحث في
الشأن الليبي، فرج دردور: "في اعتقادي الأمر يتعلق بحرب السودان، فمن المعروف لدينا بأن حفتر يعمل أداة طيعة للإمارات؛ فيقوم بنقل المعدات والمسيرات والمرتزقة والوقود إلى حميدتي، جزء من هذا الدعم مقدم من أبوظبي وجزء من ليبيا عن طريق حفتر، والهدف محاربة الجيش السوداني والاطاحة بالحكومة السودانية وتمكين حميدتي من حكم السودان".
دردور، أضاف لـ"عربي21": "والسيسي يتفق مع الإمارات وحفتر في كل شيء تقريبا إلا في دعم هؤلاء لحميدتي؛ لأن السيسي يدعم البرهان، وإن كان يقتصر على الدعم السياسي، وبما أن العلاقة بين حفتر والسيسي علاقة تحالف ومن جانبه السيسي على تواصل مع البرهان، فأراد السيسي القيام بدور التقريب بين حفتر والبرهان محاولا نزع حفتر من يد الإمارات وإفشال دورها في دعم طرف ضد الآخر".
ويرى أنّ: "اللقاء لا يخلو أيضا من مناقشة الملف الليبي، ومواصلة السيسي دعم الانقسام في ليبيا؛ إلى أن تتشكل حكومة موالية له تحكم كل ليبيا، وبالتأكيد أن أي تنازل من قبل حفتر في الجانب السوداني سيقابله دعم إضافي من السيسي إلى حفتر في الملف الليبي، ليواصل تمرده على السلطة الشرعية في طرابلس".
"تعديل صورة بعد تهميش"
في قراءته، قال الخبير في الشؤون السياسية والاستراتيجية، ممدوح المنير، إن "هذا التزامن في استقبال حفتر والبرهان في قصر العلمين يحمل دلالات سياسية واستراتيجية؛ حيث يحرص النظام المصري على إظهار صورته باعتباره مركز الثقل الإقليمي، والقادر على جمع خيوط النزاعات المتشابكة في ليبيا والسودان، خصوصا بعد التهميش الأمريكي الخليجي الذي يعاني منه".
"هذا الترتيب الزمني -استقبال حفتر صباحا، ثم البرهان مساء- يوحي بأن القاهرة تسعى لتأكيد مرجعيتها في الملفين، ولإظهار أنها ما زالت اللاعب الذي لا غنى عنه في ضبط التوازنات"، أضاف، المنير في حديثه لـ"عربي21".
وأوضح أنه "من المهم ألا نغفل أن العلمين موقع رمزي قريب من الحدود الليبية، مما يبعث رسالة إلى الداخل الليبي بأن القاهرة هي حاضنة تفاهمات القوى الفاعلة".
"رسائل لمن؟"
يعتقد أن الرسائل التي أرادها السيسي إيصالها من اللقاءين ودلالتها للدول المختلفة، تأتي أولها إلى الإمارات، بهدف: "تأكيد استمرار التحالف الوثيق مع أبوظبي، فيستحيل أن يخرج السيسي عن طوع محمد بن زايد وليّ نعمته حاليا".
واستدرك "لكنها محاولة استعراضية أكثر منها حقيقية لاستعادة زمام المبادرة المصرية بعيدا عن النفوذ الإماراتي المنفرد في دعم قوات حفتر والدعم السريع، خصوصا بعد تواتر التقارير الغربية عن خطوط إمداد سلاح وتمويل إماراتية".
الرسالة الثانية، وفق تقدير المنير، إلى "تركيا وحكومة غرب ليبيا"، ويظن أن فيها "رسالة تحذير بأن القاهرة لا تزال قادرة على توحيد الصف المناوئ لحكومة طرابلس، والاحتفاظ بورقة حفتر كورقة ضغط تفاوضية في أي تسوية قادمة".
"لقوات الدعم السريع، من اللقائين، رسالة غير مباشرة"، يؤكد المنير، ويضيف أن مضمونها يقول إن "القاهرة قد تعيد ضبط مواقفها وتخفف من تغاضيها عن تحركات الدعم السريع على الحدود إذا لم يتم كبحها، خاصة في المثلث الحدودي الحساس الذي يحظى باهتمام غربي وليس مصري فحسب".
الرسالة الأخيرة، يعتقد المنير، أنها "للرأي العام السوداني والليبي"، وأن خلفها "محاولة لتقديم السيسي كوسيط استقرار لأطرف صراع، رغم أن الوقائع الميدانية تشير إلى تورط غير مباشر في تغذية النزاعات عبر تفاهمات وتحالفات غير معلنة".
اظهار أخبار متعلقة
"نتائج محتملة"
في تقدير الخبير المصري، فإنه "على المدى القريب ستؤدي هذه اللقاءات في السودان إلى، تعزيز مكانة البرهان داخليا، إذ يحتاج بشدة للشرعية بعد العقوبات الأمريكية مؤخرا على السودان بحجة استخدام أسلحة كيميائية".
"منح مصر قدرة أكبر على الضغط على الطرفين لوقف تمدد الصراع نحو حدودها الغربية"، بحسب المنير، الذي استدرك بقوله: "لكن من غير المرجح حدوث اختراق جوهري إلا إذا ترافق ذلك مع تفاهمات إماراتية- سعودية- مصرية أوسع".
وفي ليبيا، يعتقد أنّ: "اللقاءات قد تسهم في إعادة تنسيق الدور المصري مع حفتر بعد الفتور السابق، وهو ما قد ينعكس على إعادة توزيع النفوذ العسكري في الشرق الليبي وضبط التوتر مع حكومة الوحدة. لكن في ظل الانقسام الدولي وتباين مصالح تركيا وروسيا والإمارات، سيبقى هذا التنسيق محدودا من حيث القدرة على فرض تسوية شاملة".
وختم قائلا: "أرى أن القاهرة لا تملك أوراق ضغط حقيقية تمكنها من تحقيق أي اختراق نوعي في أي من التوازنات السياسية السابق ذكرها، فالفشل في كل ملفات الأمن القومي الهامة مثل سد النهضة وتيران وصنافير ومحور صلاح الدين في رفح، كلها كاشفة عن نتائج متواضعة يمكن للقاهرة تحقيقها، في ظل النظام العسكري الحالي المهتم بتحقيق مصالحه على حساب أي مصالح للأمن القومي المصري".
"تحرك محمود.. وضغوط أوروبية"
في قراءته للمشهد، ثمن الباحث والكاتب والمحلل السياسي السوداني، وائل نصر الدين، "مبادرة مصر للحوار بين السودان وحفتر، وتتلاقى مع مطالب السودانيين بوقف دعم حكومة شرق ليبيا لقوات الحشد السريع بعد اتباعها أجندة خارجية ليست بمصلحة الشعب الليبي".
وفي حديثه لـ"عربي21"، أوضح أن "هناك مشكلة بين السودان والإمارات، وافقت قوات حفتر على أن تكون وكيلا لأبوظبي، وتتدخل في الشأن السوداني، وكسوداني أتمنى من شرق ليبيا الابتعاد عن مؤامرة الحرب هذه، وقطع علاقتها بمليشيات الدعم السريع وإغلاق الحدود الجنوبية مع السودان لصالح الشعبين".
ورغم إشادته بالتحرك المصري، بدا علي، غير متفائلا كثيرا، مبينا أنّ: "مثل هذه المقابلات تكون رسالة عتاب أكثر من أنها إجراءات عملية، ولو هناك خطوات على الأرض فكان من المفترض حضور المقابلتين فريقا من الأمنيين والعسكريين والمستشارين".
وحول أهم التحولات المحتمل حدوثها في المشهد السوداني والليبي إثر اللقائين، قال: "واضح أن الأوروبيين لديهم مصلحة في أمن واستقرار ليبيا والسودان، وخاصة المثلث الحدودي مع مصر، لأنها منطقة محور مفضل للمهربين وتجار البشر".
وتوقع علي، "وجود ضغوط أوروبية على حفتر من خلف ستار مع أنهم الداعميين الأساسيين له، كما أنهم التقوا البرهان بمؤتمر إشبيلية للتنمية الأحد الماضي، وتم ترتيب لقاء مصر في إسبانيا للحوار وغلق الملفات لأن ملف الهجرة غير الشرعية مقلق لأوروبا".
ولفت إلى أن "مصر قلقة مما جرى في المثلث الحدودي، بينما كانت مطمئنة للحضور السوداني هناك، ولكن بدعم مليشيات حفتر، للحشد السريع وإدخال المرتزقة الكولومبيين وهزيمة حرس الحدود السوداني وإخراجه من المثلث مصر لم تعد مرتاحة"، متوقعا "غلق القاهرة الحدود انتظارا لما سيقوم به الدعم السريع".
اظهار أخبار متعلقة
وأشار إلى أنّ: "السلطات المصرية تلقت أيضا عرضا بالحوار من الدعم السريع بأنه يريد الحوار مع مصر والتعاون معها، بعد شهور وأعوام من تصريحات شعبوية أطلقها قادة الميليشا بمقاطعة القاهرة ومنع صادرات الفول واللحوم والصمغ والمواد الخام لها".
في نهاية حديثه، يرى الباحث السوداني، أنّ: "الجميع لا يريد تصعيدا، فمصر، وحفتر، والبرهان، وحميدتي، يراقبون الصراع الإسرائيلي الأمريكي- الإيراني، بما له من تداعيات على المنطقة، لذلك لا يريد الجميع التصعيد ويريدون تجميد الوضع، وأعتقد أنه سيكون هناك حوار بين كل الأطراف".