كتاب عربي 21

هل يعادي المصريون اللاجئين والأجانب؟

شريف أيمن
"احتوى المصريون الوافدين إلى بلادهم على مدار التاريخ، واحتضنوهم وتحولت مصر بذلك إلى منارة علمية طوال تاريخها"- جيتي
"احتوى المصريون الوافدين إلى بلادهم على مدار التاريخ، واحتضنوهم وتحولت مصر بذلك إلى منارة علمية طوال تاريخها"- جيتي
منذ سنوات قليلة بدأت تتعالى على صفحات التواصل الاجتماعي خطابات معادية للاجئين والأجانب في مصر، وهو خطاب اتخذ أشكالا مختلفة، تتوزع بين الجوانب الاقتصادية أو السياسية أو المتعلقة بما تسمى "القومية المصرية" التي تريد ابتداع "عِرْق مصري" وله أصل نقي، وهي مغالطة عملية قبل أن تكون حماقة.

تعود أسطورة العِرق إلى أوائل القرن التاسع عشر، التي ابتدعها الطبيب الأمريكي "صامويل مورتون"، الذي كان مولعا بجمع الجماجم، سواء من سراديب الموتى أو ساحات القتال. ومن خلال هوايته هذه، قسَّم "مورتون" البشر إلى خمسة أعراق، وقد رتّبها وفقا لتسلسل هرمي، كان فيه "العرق الأبيض" أو "القوقازيون" هم الأكثر ذكاء بين بقية الأعراق، وقد وضعهم بذلك في المرتبة الأولى، يلونهم الشرق آسيويين الذين أطلق عليهم لفظ "المنغوليين"، ثم السكان الأصليين لأستراليا وغينيا الجديدة وجنوب شرق آسيا في المرتبة الثالثة، يلونهم الأمريكيون الأصليون في أمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية، وفي أسفل الهرم وضع أصحاب البشرة السمراء أو "الزنوج".

لم تكن الهجرة إلا مبعَث فخر وعلامة تحضّر، واليوم يريد هؤلاء القوم أن تزداد مصر انكفاء وجهلا، بنبذ التبادل الثقافي والعلمي، وجعْل مصر للمصريين

يقف العلماء اليوم أمام هذه التقسيمات العرقية بشدة، ويعتبرون التنوع العرقي تنوعا ثقافيّا لا بيولوجيّا، ويجادلون بأنه لا يوجد من يحمل دما نقيّا خالصا إذا تم تتبُّع أصل أي شخص لعشرات السنين، وبالتالي فقضية نقاء العرق تعد غير علمية.

في مصر، انتهى حكم المصريين القدماء بالغزو الروماني بنحو 30 أو 40 عاما قبل الميلاد، وحكم الرومان مصر لقرون، ثم جاء الفتح الإسلامي عام 641 من الميلاد، وطوال أكثر من ألفيْ عام، تعاقبت الأجناس على المجتمعات المصرية، ما ينسف فكرة نقاء العرق المصري، وقطعا سيكون المتحدثون بهذه الخرافات من أحفاد القادمين أو المستوطنين من أي قُطْرٍ ناءٍ، واختلطت أنسابهم على مدار ألفيْ عام، وربما لا يكونون من أصل مصري أصلا! هذا من الناحية العلمية.

على الجانب الأخلاقي، احتوى المصريون الوافدين إلى بلادهم على مدار التاريخ، واحتضنوهم وتحولت مصر بذلك إلى منارة علمية طوال تاريخها، مستفيدة من التبادل الثقافي والعلمي بين الحضارات والأمم، ولم تكن الهجرة إلا مبعَث فخر وعلامة تحضّر، واليوم يريد هؤلاء القوم أن تزداد مصر انكفاء وجهلا، بنبذ التبادل الثقافي والعلمي، وجعْل مصر للمصريين. ومصر اليوم لا تنتج شيئا صناعيّا أو ثقافيّا، بل تستورد أغلب ما لديها، وما تنتجه من ثقافة أصبح معروضا لمن يدفع، بل حتى في الجانب الفني، أصبحت السعودية تمتلكه بمباركة رسمية وتنازل كامل عن أي منتج حتى لو ركيكا لكنه يُدرُّ المال.

اللافت أن الداعين إلى عدم ورود البشرِ مصر للاستقرار، استوردوا الفكرة نفسها من الغرب، مع تصاعد الخطاب اليميني في أوروبا وأمريكا، ومطالبة اليمينيين بقصر دولهم على مواطنيهم، وفي الوقت ذاته لم يستوردوا تعامل الغرب في ملف اللجوء، وهو رغم الانتقادات التي يتعرض لها مع صعود اليمين، لا يزال خارج سياق المقارنة مع الدول العربية، ومصر السيسي بالطبع، ولم يستوردوا تعامل الغرب مع شعوبهم في تداول السلطة ومساحات حرية الرأي والتعبير.

عزل مصر عن محيطها جزء من ثقافة الاستبداد المحلي، والهيمنة الاستعمارية التي تريد تفريق التجمعات الثقافية في المنطقة، وإعلاء قيم انفصالية في مقابل قيم الوَحدة والعمل المشترك، ولا يمكن استبعاد تصاعد هذه الحملات عن سياق حرب الإبادة التي يشنها العدو الصهيوني على قطاع غزة، وخروج حملات تستهدف الغزيين، لكنها تُبطَّن في سياق أعمٍّ ضد اللاجئين والوافدين من كل الدول

في السياق الاقتصادي للجوء، يروّج النظام المصري واللجان الداعمة له أن الأجانب يكلِّفون موازنة الدولة فوق طاقتها، والحقيقة غير ذلك، إذ إن التنظير الاقتصادي يشير إلى رواج اقتصادي نتيجة زيادة أعداد الوافدين إلى البلد، وهم لا يأخذون المنتجات مجانا، بل يدفعون ثمنها، ولا يسكنون مجانا بل يستأجرون محل سكنهم، ولا يستهلكون خدمة أساسية سواء في التعليم أو الصحة أو الكهرباء والمياه دون دفع ثمنها، وفوق ذلك يدفعون مبالغ طائلة في الدراسة واستخراج الإقامات بمئات الدولارات، فهم في الحقيقة مصدر دخل وليسوا مصدر عبء على النظام الاقتصادي.

كما أن المسجَّلين في المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين يتلقون دعما ماليّا وعينيّا، وهو محدود بالمناسبة، ولا تدفع الدولة المصرية شيئا لهم، سواء إعانات بطالة أو خدمات مجانية، بل إن النظام السياسي المصري يأخذ من كل أجنبي مئات الدولارات، ويتلقى دعما ماليّا بمئات أخرى على كل لاجئ، فهو يستفيد من كل الأطراف، وفي المقابل لا يمنح اللاجئ أي حق من حقوقه الأساسية.

إن الحملات الإعلامية المستعرة على اللاجئين في وسائل التواصل الاجتماعي، ينكشف أن وراءها حسابات تابعة لنظام السيسي الذي يريد أن يستفيد من اللاجئين ويبتزهم ويهدد الغرب بفتح الحدود لهم إن لم يعطيه ما يريد، وهذه الحسابات لجان إلكترونية لا تمثل حقيقة استضافة مصر للوافدين، الفارين من النزاعات، بدءا من العراقيين عقب الغزو الأمريكي عام 2003، ثم السوريين عام 2011، والفلسطينيين منذ عام 1948، ومؤخرا السودانيين عام 2023، فالترحاب كان دائما، والفائدة الاقتصادية من الوفود إلى مصر ملموسة، خاصة مع قدوم السوريين الذين وفدوا بمئات الآلاف، وأضافوا قيمة اقتصادية كبيرة لمصر، وتنوعا ثقافيا راقيا.

إن عزل مصر عن محيطها جزء من ثقافة الاستبداد المحلي، والهيمنة الاستعمارية التي تريد تفريق التجمعات الثقافية في المنطقة، وإعلاء قيم انفصالية في مقابل قيم الوَحدة والعمل المشترك، ولا يمكن استبعاد تصاعد هذه الحملات عن سياق حرب الإبادة التي يشنها العدو الصهيوني على قطاع غزة، وخروج حملات تستهدف الغزيين، لكنها تُبطَّن في سياق أعمٍّ ضد اللاجئين والوافدين من كل الدول، وهي رسالة وضيعة من نظام السيسي للفلسطينيين المقهورين الذين خرجوا للعلاج أو للنجاة بأرواحهم، وهو يحاصرهم ويشترك في منع المساعدات عنهم، ويستمر في مشاهدة المذابح دون موقف يُخفف من وقع الحرب على الفلسطينيين لا إنهاءها.
التعليقات (0)