في خطوة تعبّر عن تحوّل عميق في العقيدة
الأمنية والسياسية للجزائر، أوصت اللجنة القانونية بالمجلس الشعبي الوطني بالإسراع
في تفعيل قانون
التعبئة العامة، من خلال بناء ملاجئ وتكييف البنى التحتية، في ظل
سياق إقليمي ودولي يتسم بـ"الاضطراب والاستهداف"، وفق تقرير تمهيدي نشرته
وسائل إعلام جزائرية محلية.
تقرير اللجنة، الذي يأتي عشية مناقشة
البرلمان لقانون التعبئة العامة، لم يكتف بالدعوة إلى تعبئة مادية وعسكرية فقط، بل
تطرق إلى "التعبئة المعنوية"، شاملة التحصين المعلوماتي، والاستعداد
السيبراني، وإشراك حتى المحبوسين في عمليات التعبئة.
ويكشف التقرير تحوّلاً في النظرة الرسمية
للعلاقات الدولية، إذ اعتبر أن "
الجزائر لم تعد تأتمن حتى من كانت تعتبرهم
أصدقاء وحلفاء"، في إشارة غامضة توحي بتراجع الثقة في شركاء سابقين، ربما في
أوروبا أو الغرب، ما يشي بتحولات جذرية في السياسة الخارجية للبلاد.
السياق الإقليمي.. من مالي إلى ليبيا..
جبهات قلقة
تصاعد التوتر على الحدود الجنوبية، خاصة مع
مالي، بعد إسقاط طائرة مسيّرة مطلع أبريل الماضي، عزز الشعور بوجود "تهديد
مباشر"، وهو ما عجّل بمصادقة مجلس الوزراء على المشروع يوم 20 أبريل، وتقديمه
بعد ذلك بأيام للبرلمان.
في منطقة الساحل، حيث تعيش عدة دول حالة
انهيار أمني، ترى الجزائر أن فراغ السلطة وانتشار الجماعات المسلحة يمثلان خطراً
متزايداً على أمنها القومي، مما يدفعها لرفع حالة الجاهزية إلى مستويات غير مسبوقة
منذ عقدين.
الرسائل الدولية.. تعبئة داخلية في وجه
"استهداف خارجي"
التقرير حمل لهجة سياسية واضحة تجاه
"القوى الاستعمارية وقوى الشر المعاصرة"، في تعبير يوحي بإحياء خطاب
السيادة والممانعة الذي ميز السياسة الجزائرية في فترات سابقة.
ويعكس مشروع القانون أيضاً تصاعداً في
مقاربة "السيادة الشاملة"، حيث لا تقتصر التعبئة على الجوانب العسكرية،
بل تشمل الإعلام، الاقتصاد، والفضاء السيبراني. ويأتي ذلك بالتوازي مع منح الحكومة
صلاحية طرد رعايا "دول عدوة" وفرض عقوبات صارمة على مخالفي القانون.
تحولات تشريعية.. من الاحتياط إلى التعبئة
الشاملة
قانون التعبئة العامة الجديد يأتي استكمالاً
لقانون الاحتياط العسكري (أغسطس 2022)، ويمثل تطوراً نوعياً في المنظومة التشريعية
الجزائرية، عبر تحويل وضع القوات المسلحة من السلم إلى الحرب، وتعليق تسريح أفراد
الجيش، واستدعاء الاحتياطيين.
الأخطر من ذلك أن القانون يسمح بتحويل
الطاقة الصناعية نحو الإنتاج العسكري، وتعليق التقاعد، ومنع تصدير بعض المنتجات،
في خطوة تعيد إلى الأذهان نماذج التعبئة الشاملة في فترات الحروب العالمية.
تعبئة "عبر الحدود".. دعم
للمبتكرين وإعلام وطني مضاد
في بُعد آخر، يحاول المشروع توظيف النخب
والكفاءات الجزائرية في الخارج لدعم الأمن المعلوماتي، ومواجهة "غزو"
وسائل التواصل الأجنبية، ضمن سياسة "التحصين الرقمي" وتوطين المعرفة
التكنولوجية.
سياسة على حافة الطوارئ
تأتي هذه التطورات في وقت حساس، حيث يشهد
العالم اضطرابات جيوسياسية عميقة: من الحرب في أوكرانيا، إلى التصعيد بين الصين
والولايات المتحدة، وأزمات الوقود والغذاء. وفي هذا الإطار، يبدو أن الجزائر تستعد
لسيناريوهات متعددة، ليس فقط دفاعاً عن حدودها، بل أيضاً عن نموذجها السياسي
والاقتصادي.
اظهار أخبار متعلقة
ورأى الخبير الأمني المنشق عن النظام
الجزائري كريم مولاي في حديث لـ
"عربي21"، أن قانون التعبئة العامة، بما
يحمله من تحولات أمنية وقانونية ومجتمعية، يمثل إعلاناً غير مباشر بأن الجزائر
تستشعر "مرحلة مفصلية" في تاريخها، تتطلب استعداداً شاملاً لا يقتصر على
الجيش فقط، بل على كل قطاعات الدولة والمجتمع.
وأشار مولاي، إلى أن النظام في الجزائر يعيش
تحولات عميقة في الداخل وفي علاقاته بالأطراف الخارجية التقليدية، ففي الداخل عاد دور
جناح المخابرات القديم بقيادة الجنرال التوفيق وهو مدير المخابرات الجزائري السابق
لمدة ربع قرن، وخارجيا دب الفتور إلى علاقات النظام الجزائري ليس فقط إلى علاقاته
مع باريس التي تشهد أسوأ فتراتها، بل وأيضا إلى علاقاته مع حليفه التقليدي روسيا،
هذا فضلا عن خلافاته التي وصلت حد العداء مع كل من الإمارات العربية المتحدة
والمغرب.
ويضيف مولاي: "يبدو أن التطورات
العسكرية في ليبيا، وكذلك الأزمة السياسية والاقتصادية التي تعيش فيها الجارة تونس،
هذا فضلا عن العداوة مع المغرب والحياد الموريتاني، قد زادت من مخاوف النظام
الجزائري من أن المستقبل لا يحمل خيرا له، ولذلك زاد من نبرة الاستعداد لمواجهة أي
طارئ غير محسوب"، على حد تعبيره.
تحديات داخلية.. محاكمة بلغيث وإشارات
لإعادة رسم حدود التعبير
في موازاة التعبئة الأمنية والسياسية
الخارجية، تواجه الجزائر أيضاً توتراً داخلياً متصاعداً، يتجسد في محاكمة المؤرخ
والأستاذ الجامعي محمد الأمين بلغيث، أحد أبرز الوجوه الفكرية في البلاد، حيث
أُرجئ النطق بالحكم في قضيته إلى يوم 22 مايو الجاري. وتثير القضية جدلاً واسعاً
بشأن هامش الحريات الأكاديمية وحرية التعبير، وسط اتهامات بتسييس القضاء وتضييق
المجال العام.
محاكمة بلغيث تأتي في وقت ترفع فيه الدولة
شعار "التعبئة العامة" وتدعو لتلاحم داخلي في مواجهة تهديدات خارجية،
إلا أن هذه الإجراءات ـ بحسب مراقبين ـ تثير قلقاً من تحول التعبئة إلى ذريعة
لتقليص الحريات وملاحقة الأصوات النقدية.
ويُضاف إلى ذلك ما ورد في تقرير اللجنة
القانونية من إشارات غير مسبوقة، حين اعتبرت أن "التحضير المادي والمعنوي
أصبح ضرورة لحماية الاستقرار في ظل استهداف الجزائر من قوى استعمارية وأذرعها في
الداخل"، وهو تصريح يحمل في طياته تلميحات قد تُفهم كتبرير محتمل للتشدد تجاه
بعض النشطاء أو المثقفين المعارضين.
في هذا السياق، يبدو أن الجزائر تواجه جبهة
داخلية لا تقل تعقيداً عن الجبهات الخارجية، حيث يتقاطع الأمني مع السياسي،
ويتداخل الدفاع الوطني مع قضايا الحقوق والحريات، ما يعيد طرح السؤال الجوهري: إلى
أي مدى يمكن تحقيق "تعبئة وطنية" حقيقية دون إشراك كل الأصوات، بما في
ذلك المعارضة الفكرية؟
اظهار أخبار متعلقة