ملفات وتقارير

تصعيد دبلوماسي بين فرنسا والجزائر.. اتهامات متبادلة وتدهور خطير في العلاقات

القضية الأساسية التي فجرت هذا التصعيد، وفقا لذات المنظور، ليست مجرد إجراءات دبلوماسية، بل تحول استراتيجي في التموضع الإقليمي الفرنسي.. الأناضول
القضية الأساسية التي فجرت هذا التصعيد، وفقا لذات المنظور، ليست مجرد إجراءات دبلوماسية، بل تحول استراتيجي في التموضع الإقليمي الفرنسي.. الأناضول
تواصل العلاقات الفرنسية ـ الجزائرية انحدارها السريع نحو أزمة دبلوماسية عميقة، بعد أن أعلنت الجزائر طرد 15 موظفاً دبلوماسياً فرنسياً، فيما توعّدت باريس بردّ "قوي ومتناسب"، واصفة القرار بأنه "غير مبرر". هذه الخطوة جاءت في أعقاب تصاعد الخلافات بين البلدين، والتي تعود جذورها إلى ملفات تاريخية وسياسية حساسة، كان أبرزها دعم فرنسا لموقف المغرب بشأن الصحراء الغربية.

وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، قال في تصريح صحفي من نورماندي: "رحيل الموظفين الذين يقومون بمهام مؤقتة أمر غير مبرر، وسنرد عليه بالطريقة المناسبة. هذا القرار لا يخدم مصلحة الجزائر ولا مصلحة فرنسا".

وقد كشفت وكالة الأنباء الجزائرية أن باريس قامت بتعيين 15 موظفاً دبلوماسياً في الجزائر بطريقة اعتبرتها الأخيرة "مخالفة للإجراءات المعمول بها"، مما استدعى مطالبة القائم بالأعمال الفرنسي بترحيلهم فوراً.

قضية تجسس واختطاف تعمّق الهوة

وجاء الحدث الأبرز الذي زاد الأزمة تعقيداً، حين أعلنت السلطات الفرنسية عن اعتقال عدة جزائريين بينهم موظف في القنصلية الجزائرية بباريس، بتهمة التخطيط لاختطاف المدون الجزائري أمير بوخرص، وهو ما اعتبرته الجزائر خرقاً فاضحاً للمعايير الدبلوماسية.

واتهمت باريس الموظف القنصلي بـ"المشاركة في عمل إرهابي"، مؤكدة أن التحقيقات تشير إلى ضلوع مسؤولين في محاولة منظمة لاختطاف المدون. وفي المقابل، اتهمت الجزائر وزير الداخلية الفرنسي بـ"توظيف الملف سياسياً" لإشعال التوتر، مشيرة إلى أن الموظف المعتقل يتمتع بحصانة دبلوماسية وأن الحادثة تمثل "انتهاكاً صارخاً لاتفاقية فيينا".

ما وراء انهيار العلاقات؟

في تحليل شامل، قال الدبلوماسي الجزائري السابق والمعارض السياسي محمد العربي زيتوت في تصريحات خاصة لـ "عربي21" إن "الأمور تسير نحو مزيد من التدهور"، متوقعاً أن ترد فرنسا بطرد ما لا يقل عن 15 عنصراً من المخابرات الجزائرية يعملون على أراضيها.

ويوضح زيتوت أن التدهور المتسارع يُظهر مدى تشابك المصالح الأمنية والاستخباراتية، حيث تدير الجزائر 21 مركزًا دبلوماسيًا في فرنسا (18 قنصلية، قنصليتان عامتان، وسفارة)، مقابل وجود أربع بعثات فرنسية فقط داخل الجزائر. ويضيف أن المراكز الثقافية الفرنسية المنتشرة في الجزائر يعتقد أنها تُستخدم كغطاء لنشاط استخباراتي.

نقطة الانفجار.. ملف الصحراء

بحسب زيتوت، "تعود نقطة التحول الجوهرية إلى يونيو 2024، حين فوجئ عبد المجيد تبون خلال قمة مجموعة السبع التي عُقدت في إيطاليا، بدعوة غير رسمية من ماكرون، أُعلم خلالها بأن فرنسا ستعترف بمغربية الصحراء. واعتُبر ذلك طعنة مباشرة لموقف الجزائر التاريخي الداعم لجبهة البوليساريو".

في يوليو من العام نفسه، شهر فقط بعد ذلك، قدمت فرنسا بالفعل "هدية دبلوماسية" للرباط باعتراف شبه نهائي بمغربية الصحراء، مما أغضب النظام في الجزائر غضبا شديدا وبدأ حملة إعلامية ضد فرنسا.

وأضاف: "كانت إقالة المدير العام للأمن الداخلي، التي حدثت في 26 ديسمبر 2023، المتهم بالتقارب مع الفرنسيين، قد أحدثت قلقا في العلاقات بين البلدين بعد أن اكتشف أنه كان جاسوسا للفرنسيين، وأنه كان يستخدم مدونين اثنين لضرب أحد أجنحة النظام في الجزائر، وهو جناح المخابرات".

تصعيد داخلي وخارجي

ومن الأسباب الأخرى التي عمّقت الأزمة:

ـ اعتقال الكاتب بوعلام صنصال في نوفمبر 2024 بتهم تتعلق بـ"تقسيم الجزائر والتآمر ضدها"، رغم أنه كان من أبرز وجوه النظام في التسعينيات وما بعدها في شيطنة الإسلاميين يومها، ما تسبب في موجة غضب بفرنسا.

ـ الضغط الفرنسي على النظام الجزائري عبر إلغاء غير رسمي لامتيازات اتفاقية 2013، التي كانت تسمح لكل من يحمل جوازا ديبلوماسيا أو جوازا بمهمة بالدخول إلى فرنسا وأوروبا (شينغن) بدون تأشيرة.

ـ منع المدير السابق لديوان الرئاسة عبد العزيز خلاف وعشرات آخرين من دخول فرنسا.

ـ تصعيد وزير الداخلية الفرنسي القريب من اليمين المتطرف، والذي أطلق تحقيقاً جديداً في قضية اختطاف المدون أمير بوخرص، التي طويت منذ العام الماضي، متهماً مسؤولين جزائريين رفيعين بالقنصلية والسفارة مما اضطر أمنيين كبارا لمغادرة فرنسا، وهذا فجّر موجة قرارات متبادلة بطرد دبلوماسيين، كان آخرها ما حدث أمس الأحد، حينما طلبت الجزائر من 15 ضابط استخبارات مغادرة البلاد.

الإعلام كأداة اشتعال

ووفق زيتوت، فإنه و"في تطور جديد، شن الصحفي المعروف بعدائه الشديد للإسلام محمد سيفاوي، ذو الأصول الجزائرية والمرتبط بجماعات اليمين المتطرف، هجوماً حاداً على تبون في مقال نشر بصحيفة Le Journal du Dimanche، اتهم فيه عبد المجيد تبون بالتورط شخصياً في أمر اختطاف المدون بوخرص".

ويقول زيتوت: إن استدعاء سيفاوي الجديد من قبل تيارات يمينية متطرفة في فرنسا يهدف إلى تشويه تبون وتأليب الرأي العام الفرنسي ضده شخصيا إضافة إلى المخابرات الخارجية، مشيراً إلى أن "سيفاوي متهم في قضايا نصب واحتيال وكان قد اختفى قليلا من المشهد الإعلامي بعد هذه الاتهامات".





تداعيات الأزمة.. ما الذي ينتظر البلدين؟

التصعيد الحاصل يحمل أبعاداً أمنية واستراتيجية حساسة. من جهة، تتخوف الجزائر من دعم فرنسي غير مباشر لفصيل قبائلي (الماك)، الذي يريد تأسيس دولة في منطقة القبائل ويفصلها عن الجزائر، وهو مدعوم من قوى يمينية في الغرب ومن الإمارات بشكل خاص، خاصة في ظل اتهامات جزائرية قديمة لفرنسا بـ"رعاية الانفصال"، فيما يرى مراقبون أن أطرافا داخل فرنسا قد تستثمر أكثر في ورقة الانفصال كرد فعل سياسي ودبلوماسي.

ومن جهة أخرى، تسعى الجزائر إلى بعث رسائل واضحة بأنها ليست معزولة، من خلال زيارات رسمية كزيارة الرئيس الجزائري إلى سلوفينيا اليوم.

في تصعيد جديد وغير مألوف، بدأ الإعلام الرسمي وشبه الرسمي في الجزائر يتناول ملف الأقليات العرقية والدينية في فرنسا، في ما يبدو أنه رد مباشر على التلويح الفرنسي الدائم بملف "الانفصال القبائلي" في الجزائر. واعتبر مراقبون أن فتح الجزائر لملف الأقليات الفرنسية، من كورسيكيين وباسك ومسلمين وأفارقة، هو رسالة واضحة مفادها أن فرنسا ليست محصنة داخليًا من الحركات الانفصالية والتمييز الإثني.

وتُعد هذه الخطوة تحولا نوعيا في الخطاب الجزائري، الذي بات يربط بين "حق تقرير المصير" الذي تدعو إليه فرنسا في بعض السياقات الخارجية، وبين تجاهلها لمطالب مكونات اجتماعية داخلية تعاني التهميش والتمييز في الجمهورية الخامسة.

من جانبها، تتجه فرنسا للتصعيد المقابل عبر إعادة تسليط الضوء على حركة "الماك"، ما يُنذر بمرحلة جديدة من "حرب الملفات السيادية" بين البلدين، تتجاوز الدبلوماسية إلى استخدام أوراق حساسة تتعلق بالتماسك الداخلي لكل طرف.

القضية الأساسية التي فجرت هذا التصعيد، وفقا لذات المنظور، ليست مجرد إجراءات دبلوماسية، بل تحول استراتيجي في التموضع الإقليمي الفرنسي، اختارت فيه باريس الانحياز إلى الرباط في ملف شائك مثل الصحراء، مقابل تجاهل حليف تاريخي مثل الجزائر.

وفي ظل استمرار تبادل الطرد، والاتهامات المتبادلة، والاختراقات الأمنية، فإن عودة العلاقات إلى طبيعتها لن تكون ممكنة إلا عبر حوار سياسي عميق يعيد تحديد خطوط المصالح والاحترام المتبادل بين البلدين.

اظهار أخبار متعلقة


التعليقات (0)