"أنا قلت وأكرر من خلال شاشة الجزيرة وأسجل هذا الكلام على مسامع
ومرأى العالم، أننا وإن كنا نخشى الموت فإننا نخشى الموت على فراشنا كما يموت
البعير أو في حوادث الطرق أو في جلطة دماغية أو في سكتة قلبية، ولكننا لا نخشى أن
نقتل في سبيل ديننا أو مقدساتنا أو في سبيل أوطاننا. ودماؤنا وأرواحنا ليست أغلى
من دماء وأرواح أصغر شهيد قدم روحه في سبيل هذا الوطن وفي سبيل هذه المقدسات"
(القائد الفلسطيني يحيى السنوار، في مقابلة مع قناة الجزيرة الإخبارية قبل اندلاع
طوفان الأقصى).
يريد البعض عن جهل أو عن عمد أن يضعنا في مقارنة بين نصر أكتوبر 1973 وبين
طوفان الأقصى، بل ويقفز البعض قفزة في الهواء الطلق وهو يقرر أن طوفان -أكتوبر- الأقصى
كان وبالا على الأمة بأسرها بينما كانت حرب أكتوبر نصرا عزيزا مؤزرا. والحقيقة أن
كلا من طوفان أكتوبر وحرب أكتوبر قد خرجا من مشكاة واحدة، فكلاهما نور وسط عتمة
الذل والعار، فقد انتكست الجيوش العربية في يونيو 1967، كما انتكست السياسة
العربية بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد وأبراهام للتطبيع مع العدو، فجاء نصر أكتوبر
1973 ليعيد للجيوش والشعوب بعض الكرامة المفقودة، وجاء الطوفان ليعيد للشعوب
المحتلة اعتبارها وتذكر العالم بأن فلسطين محتلة وأن النضال والكفاح المسلح
والجهاد لا يزال قائما، ولو عند طائفة من هذه الشعوب وهي شعب فلسطين العظيم.
حصلت عملية الاستدارة والتي أراها أنها أدخلت مصر القفص، فلم تعد قادرة على الخروج للتفاعل الإيجابي والاشتباك الحقيقي مع قضايا الأمة وباتت تعزف منفردة، ثم وجدت نفسها مضطرة للعزف مع الكيان الصهيوني من أجل ضمان بقائها بعيدة عن الحروب. ورغم ما قيل عن كلفة الحروب وأهمية السلام لمصر فلم يحقق لها السلام أي فائدة اقتصادية تذكر
يعتبر نصر أكتوبر 1973 نصرا عسكريا غير مسبوق في تاريخ العسكرية الحديثة في
مصر على وجه الخصوص؛ كان قد سبقته
نكسة عسكرية مذلة غير مسبوقة أيضا في تاريخ مصر في مجمله، وهو نصر للشعب الذي حارب
وللجيوش التي قاتلت وللأمة العربية والإسلامية التي ساندت. وعادة ما تُنسب
الانتصارات للجيوش المقاتلة، ولكن الحقيقة أن النصر لا يعود فقط للقيادة السياسية
التي استجابت للضغط الشعبي المصري من أجل الثأر من عدو أهان وألحق العار بالجيش
المصري في 1967، بل للشعب أولا وللأمة بأسرها. وكشاهد على العصر أقول إن هذا النصر
بل هذه الحرب ذاتها لم يكن من المؤمّل أن تخوضها مصر في ظل تسليح سوفييتي لا يمكن
مقارنته بالسلاح الأمريكي لدولة الكيان، ولم تكن بعض الجبهات على استعدادا لخوض
الحرب، بل إن قيادات بعض تلك الجبهات خانت الأمة وأبلغت العدو بموعد الحرب؛ ولولا
أن العدو لم يصدقها لربما تغيرت الأمور وتحولت لصالح العدو كما جرى في نكسة 1967.
حرب أكتوبر هي حرب جيوش نظامية مهمتها القتال دفاعا وهجوما، استطلاعا
واستخبارات، عمليات تجسس وعمليات سرية وأخرى قتالية في البر والبحر والجو؛ ما كان
للجيش المصري أن يخوضها لولا الدعم الشعبي الهائل والذي حصل عليه السادات من الشعب
المكلوم بسبب هزيمة 1967، والتي تسببت فيها القيادة السياسة في عهد عبد الناصر
برعونتها وفسادها، كما أنها كانت حرب العرب والدول الإسلامية والأفريقية والشعوب
الحرة التي كانت تتطلع إلى كسر شوكة دولة الكيان والتشفي في الدول الاستعمارية
الكبرى التي كانت تدعمها مثل إنجلترا وفرنسا وأمريكا، وبالتالي قامت الدول العربية
بالمساهمة الفعلية في المجهود الحربي والدعم المالي والعسكري لمصر التي استطاع
جيشها عبور القناة بعد تحطيم خط بارليف، أكبر مانع مائي في تاريخ الحروب العسكرية
العالمية، ولكنها تحولت من حرب عسكرية قتالية إلى حرب دبلوماسية؛ لم تكن مصر لديها
من القدرات والكفاءات ما يمكنها من استثمار العبور العظيم أفضل استثمار فوقعت مصر
في حبائل الشيطان الأمريكي المعروف هنري كيسنجر الذي أقنع السادات بأن يكون واقعيا.
وكما كتب الرئيس السادات نفسه في كتابه "البحث عن السادات" نقلا عن
كيسنجر الذي قال له قبل حرب أكتوبر 1973: "نصيحتي للسادات أن يكون واقعيا،
فنحن نعيش في عالم الواقع، ولا نستطيع أن نبني شيئا على الأماني والتخيلات،
والواقع أنكم مهزومون فلا تطلبوا ما يطلبه المنتصر، لا بد أن تكون هناك بعض
التنازلات من جانبكم حتى تستطيع أمريكا أن تساعدكم". واقتنع السادات.
وهكذا حصلت عملية الاستدارة والتي أراها أنها أدخلت مصر القفص، فلم تعد
قادرة على الخروج للتفاعل الإيجابي والاشتباك الحقيقي مع قضايا الأمة وباتت تعزف
منفردة، ثم وجدت نفسها مضطرة للعزف مع الكيان الصهيوني من أجل ضمان بقائها بعيدة
عن الحروب. ورغم ما قيل عن كلفة الحروب وأهمية السلام لمصر فلم يحقق لها السلام أي
فائدة اقتصادية تذكر، بل ارتفع سقف الديون الداخلية والخارجية، وارتفعت الأسعار
وتراجع سعر العملة وزادت نسبة التضخم والبطالة، وحصل ما حصل، ولا يزال اقتصادها
يئن رغم كم القروض والمساعدات وحجم بيع الأصول داخل مصر منذ عقود.
طوفان أكتوبر سجل صمودا غير مسبوق في وجه آلة حرب هوجاء ودعم عسكري يشبه
الحرب العالمية ضد فصيل شعبي مقاوم، ليس له جيش نظامي وليس عنده ميزانيات للتسليح
ولا دعم اقتصادي أو عسكري ولا عنده مقومات القتال التقليدية، ووسط ظروف إقليمية
غاية في السوء، فدول الجوار التي أسميها "دول الجدار" مكبلة باتفاقيات
التطبيع مع الكيان، والجيوش العربية التي تمتلك أحدث أنواع الأسلحة لا تستطيع
تحريك قطعة إلا بإذن من ولي الأمر المنحاز للكيان، والمستوطنات تتوسع والحصار
يزداد، والتنكيل بالشعب الفلسطيني أصبح وجبة شبه يومية، والتطبيع العربي مع الكيان
يزداد والتبادل الاقتصادي ترتفع أرقامه، والمناورات العسكرية مستمرة والتعاون
الأمني على أشده. والربيع العربي الذي عوّل عليه الكثيرون يُقمع والسجون تُبنى
وأسوارها ترتفع في أرجاء العالم العربي، والإعلام المتصهين أصبح له ألف قناة
وإذاعة. كل ذلك ولا أحد يهتم بالقضية بل يطالبون الفلسطينيين بالسكوت وقبول ما
يلقى إليهم، فالوقت ليس وقتهم والزمن ليس زمانهم والأحداث الجارية جعلت كل قُطر
يقول نفسي نفسي.
في ظل هذه الصورة القاتمة انطلق طوفان أكتوبر 2023 ليعيد إشعال شعلة النضال
والجهاد من جديد، ولكي تصبح حديث العالم منذ اندلاع الطوفان قبل عامين وإلى اليوم.
عامان كاملان والمقاومة مستمرة والحصار يشتد عربيا وأوربيا وصهيونيا، عامان
والمظاهرات تجري على قدم وساق في أوروبا وأمريكا اللاتينية، لكنها مختفية أو تظهر
على استحياء في عالمنا العربي المنكوب بحكامه وبانبطاح ساسته على أعتاب الكنيست
الصهيوني والبيت الأبيض الأمريكي، والغريب العجيب أنهم ينبطحون ليس طلبا لدعم مالي،
فهم ينفقون التريليونات لشراء رضا سكان البيت الأبيض ولا يستطيعون حتى رفع رؤوسهم
ولا الرد على انتقادات وشتائم ترامب المتكررة وسخريته اللاذعة من العرب حكاما ومسئولين،
ولكنهم -أي الحكام- ينبطحون لا إراديا و بشكل مريب.
حرب أكتوبر هي الأصل؛ لأن الجيوش صُنعت وينفق عليها لتحارب، لا لكي تتاجر
أو يتولى قادتها المناصب السياسية والإدارية العليا، وحين تتخاذل الجيوش التي تدفع
لها الشعوب من قوت يومها؛ ساعتها يكون هناك طوفان أكتوبر ونوفمبر وطوفان
للشعوب على مر العام؛ لأن هذه الأمة حية ولن تموت، وإن خذلتها الجيوش فلن تخذلها فئة
مؤمنة بحقنا في الوجود وفي العيش في عزة وكرامة.