ملفات وتقارير

"بي بي سي" تكشف وجهاً مظلماً لشرطة لندن.. عنصرية سافرة ضد المسلمين والمهاجرين

مفوض شرطة لندن مارك رولي وصف السلوكيات الموثقة بأنها "مروعة وغير مقبولة إطلاقاً".. إكس
لم تكن لندن بحاجة إلى فضيحة جديدة كي تترسّخ أزمة الثقة بين الشرطة وسكانها، لكن التحقيق السري الذي بثّته هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) فتح الباب على جرح لم يلتئم بعد: مؤسسة أمنية يُفترض أنها حامية القانون، تتحدّث من الداخل بلسان الكراهية، وتتصرف كخصم لا كحامٍ، خصوصاً مع العرب والمسلمين والمهاجرين.

البرنامج الاستقصائي الذي حمل عنوان "Unmasked: Undercover in the Police" لم يكتفِ بعرض شهادات من الخارج، بل اقتحم قلب المؤسسة، عبر صحفي تخلّى عن اسمه وملابسه الإعلامية ليتخفى سبعة أشهر كموظف مدني في مركز شرطة تشارينغ كروس. هناك، بعيداً عن كاميرات المؤتمرات الصحفية وشعارات الإصلاح، سجّل لحظة سقوط الأقنعة.

حين سقط القناع

داخل المكاتب المزدحمة، حيث يُفترض أن تُدار العدالة، تحوّلت الغرف المغلقة إلى مسرح لنكات جنسية بذيئة، وضحكات تسخر من الضحايا، وأحاديث تتفاخر بالعنف. أحد الضباط قالها صريحة: "حين ينضم شخص جديد نضع القناع… وبعد أن نطمئن إليه نسقط القناع."
وبمجرد أن سقط القناع أمام الكاميرات الخفية، ظهر وجه شرطة لندن الآخر: عنصرية، إسلاموفوبيا، واحتقار ممنهج للضعفاء.

المسلم "عدو" والمهاجر "غزو"

أخطر ما التقطته الكاميرات كان حديث الضباط عن العرب والمسلمين: ضابط يصف الإسلام بـ"المشكلة الخطيرة" في بريطانيا، آخر يعتبر المهاجرين من الشرق الأوسط "حثالة وغزاة"، ويقترح إعدام من يتجاوز مدة إقامته بـ"طلقة في الرأس"، سخرية من الطعام الحلال، واستهزاء بصلاة الموقوفين المسلمين.

بالنسبة لعائلات المهاجرين، لم يعد الأمر مجرد تصريحات منفلتة، بل دليل على أن الخطر يأتي من داخل الجهة المفترض أن تحميهم.

نساء بلا حماية

التسجيلات أظهرت أيضاً رقيباً مخضرماً يتحدث عن قضايا اغتصاب كأنها نكات، ويستهزئ ببلاغ امرأة حامل تعرضت للركل قائلاً: "هذا ما تقوله هي فقط." المفتشة السابقة سو فيش وصفت ما شاهدته بـ"المروّع"، مؤكدة أن هذه العقليات ليست استثناء، بل خطر مباشر على النساء والثقة بالعدالة نفسها.

ما رصده التحقيق تجاوز الكلام إلى الممارسة: ضباط يروون كيف داس أحدهم على ساق معتقل حتى تورمت، وآخر كسر أصابع موقوف أثناء أخذ البصمات، وثالث انهال بالضرب على محتجز مقيد. الأخطر أنهم أبدوا استعداداً لتزوير التقارير لتبرير العنف، في ما يشبه "نظاماً داخلياً" لحماية المعتدين.

تواطؤ مع اليمين المتطرف

ولم يتوقف الأمر عند الانتهاكات، إذ أظهر التحقيق تعاطف بعض الضباط مع المتطرف اليميني تومي روبنسون، زعيم حركة "رابطة الدفاع الإنجليزية"، المعروفة بخطابها العدائي ضد المسلمين. ما يعني أن اليمين المتطرف لم يعد خارج أسوار الشرطة، بل تسرّب إلى داخلها.

ردود الفعل جاءت متسارعة: مفوض الشرطة مارك رولي وصف السلوك بـ"المشين" وعلّق عمل 9 ضباط، وزيرة الداخلية شبانة محمود قالت إن المشاهد "مقززة وصادمة"، عمدة لندن صادق خان عبّر عن "اشمئزازه وغضبه"، مؤكداً أن "العنصرية وكراهية الإسلام لا مكان لها في شرطة لندن".

لكن الغضب الشعبي بدا أعمق، إذ يرى كثيرون أن الاعتذارات تكرار لمشهد ممل: فضيحة، صدمة، اعتذار، ووعود إصلاح.. ثم عودة الأمور إلى سابق عهدها.

رد رسمي.. رسالة تعكس حجم الصدمة

لم يمرّ التحقيق مرور الكرام داخل أروقة الدولة، إذ سارع مفوض شرطة لندن مارك رولي إلى مخاطبة وزيرة الداخلية شبانة محمود وعمدة العاصمة صادق خان برسالة رسمية في 1 أكتوبر/تشرين الأول 2025، أقرّ فيها بأن ما بثّته الـBBC أعاد تسليط الضوء على "ثقافة متجذرة من العنصرية والتمييز" داخل المؤسسة.

وفي الرسالة التي اطلعت عليها "عربي21"، وصف رولي السلوكيات الموثقة بأنها "مروعة وغير مقبولة إطلاقاً"، محذراً من أن مثل هذه التصرفات تهز ثقة الناس وتدفعهم للتساؤل إن كانوا آمنين وهم تحت مسؤولية الشرطة. وأكد أنه قدم اعتذاراً مباشراً للمجتمعات المتضررة.

كما شدّد على أن أي ضابط يثبت تورطه في عنصرية، إسلاموفوبيا، أو تفاخر بالعنف المفرط، سيُحال إلى جلسة محاسبة عاجلة خلال أسابيع، في مسار يقود على الأرجح إلى فصله من الخدمة. وكشف أن شرطة لندن بصدد تنفيذ ما وصفه بـ"أكبر عملية تطهير داخلية في تاريخ الشرطة البريطانية"، أُقيل أو أُوقف خلالها نحو 1500 ضابط وموظف حتى الآن.

رولي لم يخفِ أن المشكلة "تراكمت بسبب إخفاقات قيادية وثقافية عميقة"، لكنه تعهد بمواصلة الإصلاح عبر استراتيجية جديدة تحت شعار "شرطة جديدة من أجل لندن 2"، تركز على استعادة ثقة المواطنين.



جرح مفتوح اسمه "شرطة لندن"

قبل ثلاث سنوات فقط، هزّ بريطانيا مقتل الشابة سارة إيفرارد على يد ضابط في الخدمة، وما تلاه من تقرير بارونة كايسي الذي وصف شرطة لندن بأنها "مؤسسة عنصرية وكارهة للنساء".

اليوم، يكشف التحقيق الجديد أن السموم لم تُستأصل، بل اختبأت تحت السطح بانتظار لحظة فضح جديدة.

بالنسبة للجالية العربية والمسلمة في بريطانيا، السؤال الآن لا يتعلق بالاعتذارات، بل بالثقة: كيف يطمئن شاب عربي إلى شرطي يعتبره "عدواً"؟ وكيف تلجأ امرأة مسلمة للشرطة إذا علمت أن بعض الضباط يسخرون من دينها وهويتها؟

إنها أزمة أعمق من فضيحة عابرة، أزمة ثقة مهددة بالانهيار، قد تجعل الضحايا يترددون في الإبلاغ عن الجرائم، وتحوّل الشرطة من مؤسسة حماية إلى مصدر خوف.

بين دعوات الإصلاح وإقالات محدودة، يظل السؤال قائماً: هل يمكن إصلاح شرطة لندن بالترقيع؟ أم أن ما كشفه التحقيق يؤكد أن الأمر يحتاج إلى إعادة بناء كاملة من الجذور؟ ,كما قالت الضابطة السابقة سو فيش: "المشكلة لم تكن يوماً تفاحة فاسدة.. بل إن السلة كلها فاسدة."