يظل ملف
الآثار المصرية، جرحا غائرا يؤلم المصريين جرّاء ما يجري الكشف عنه من عمليات تهريب للخارج؛ إذ في السنوات السابقة تورّط فيها دبلوماسيون أجانب وبرلمانيون ورجال أعمال وشخصيات مصرية نافذة، ليتجدد الألم مع ما تمّ إعلانه قبل أيام عن سرقة "إسورة أثرية" طالت وقائعها موظفة في قطاع الآثار.
وبينما تستعد السلطات المصرية لافتتاح "المتحف الكبير" قرب أهرامات الجيزة مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، بحضور عدد كبير من قادة دول العالم، تفجّرت أزمة سرقة إسورة ذهبية من "المتحف القديم"، بميدان التحرير وسط القاهرة، تعود للحضارة المصرية القديمة، ولعصر الانتقال الثالث (1069 و747 ق.م)، ويعادل وزنها 600 غرام وفق أثريين أهمية قناع "توت عنخ آمون" الذهبي.
ضجّة سرقة السوار، وما تبعها من مخاوف على آثار بلد تعد الأكثر تميزا وتفردا في العالم، وتساؤلات حول مدى قدرة السلطات على حمايتها، واتهامات لها بالتقصير والتورط في تهريبها، تزامنت معها ضجّة رواية "وزارة الداخلية"، حول كيفية حدوث السرقة، وطبيعة مرتكبي الحادث، واختفاء الإسورة إلى الأبد بعد تأكيد بيعها وصهرها، بأحد مسابك الذهب بأحد أحياء العاصمة المصرية القديمة.
بيان الداخلية، قال إنه بتاريخ 13 أيلول/ سبتمبر الجاري، قد أبلغ وكيل المتحف المصرى، عن إختفاء إسورة ذهبية "تعود للعصر المتأخر" من معمل ترميم المتحف، معلنا أنّ مرتكبة الواقعة التي جرت 9 أيلول/ سبتمبر الجاري أخصائية ترميم بالمتحف باعتها لصاحب محل فضيات بحي السيدة زينب الذي باعها لورشة ذهب مقابل 180 ألف جنيه، ثم بيعها لمسبك ذهب مقابل 194 ألف جنيه (4 آلاف دولار)، وصهرها ضمن مصوغات أخرى.
الإسورة تعود إلى "بسوسنس الأول" من ملوك الأسرة (21)، ويزن نحو 600 غرام من الذهب الخالص، وجرى اكتشافه ضمن مقتنيات مقبرة الملك بمدينة تانيس (صان الحجر) بمحافظة الشرقية عام 1940، وكان يتمّ ترميمها بمتحف الترميم الخاص بالمتحف المصري تمهيدا لعرضها و130 قطعة أخرى بمعرض "كنوز الفراعنة" بالعاصمة الإيطالية روما 24 تشرين الأول/ أكتوبر المقبل.
البيان الرسمي، جاء مصحوبا بمقطع مصور، من كاميرا خاصة بمحل الذهب، ظهر فيه شخصان يقوم أحدها بثني الإسورة بسهولة ووضعها بأحد الأدراج، ويعطي الآخر مبالغ مالية.
إلاّ أن خبراء شككوا في تلك الرواية وفي أثرية القطعة المباعة، كاشفين عن احتمال سرقة القطعة الأصلية وتهريبها للخارج عبر شخصيات نافذة، وتزييف قطعة بديلة ووضعها بدلا منها، جرت سرقتها وبيعها وصهرها، فيما لفت البعض إلى بيانات سابقة لوزارة الداخلية وتم تكذيبها.
وقال السفير فوزي العشماوي، عبر منشور على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك": "أعلم أن رواية سرقة خبيرة الترميم للأسورة الأثرية مليئة بالثقوب، ولكن يظل المغزي قائما، بل سيكون أعظم وأفدح لو كانت التهمة مقصودة لتغطية كوارث أكبر وسرقات أفظع".
إلى ذلك، طالب مصريون بعمل جرد لمخازن الآثار والمتاحف، مؤكدين أنه سيتم اكتشاف سرقة آلاف القطع وتبديل أخرى أصلية ونادرة بغيرها مقلدة، يتم تهريبها للخارج أو إهدائها لأمراء وملوك عرب.
ونقل الكاتب الصحفي محمد السطوحي، عن أحد العاملين في مجال الآثار تأكيده لرواج حرفة تزييف الآثار بمهارة فائقة وعرضها بالمتاحف وتهريب القطع الأصلية خارج مصر، فيما طالب السطوحي بـ"جرد واختبار القطع الموجودة (التى نعتقد أنها لم تُسرق بعد) للتأكد من حقيقتها".
نظام ورقي وجرد غير حقيقي
في رؤيته للقصة المثيرة للجدل، أكّد الخبير الأثري، حسين دقيل، أنّ: "الكشف عن سرقة الإسورة استبق عملية تجهيز خروجها ضمن مجموعة أثرية للعرض بإيطاليا، ما أظهر تلك السرقة".
وأكّد أنّ: "سرقات الآثار من مخازنها ومن المعروض بالمتاحف والمكدسة بمخازن المتاحف، لا تتوقف"، موضحا أن "ما بالمخازن يفوق المعروض بالمتاحف، كما تستقبل معامل الترميم بعضها تمهيدا لعرضها".
الأكاديمي المصري أكد لـ"عربي21"، أنّ: "السرقات مستمرة، وقد تظهر في عمليات جرد قوائم المخازن لتسليمها من عهدة أثري إلى آخر خرج على المعاش أو انتقل لمكان آخر، لكن كثيرا ما يكون التسليم والتسلم ورقيا بعلم الإدارة والمديرين، ولذا يجب أن يكون هناك جرد دائم حقيقي وبحضور لجنة مختصة، وليس على الورق فقط لأنه في النهاية يقع في الأزمة الموظف الصغير".
تتعارض مع المنطق
عن الرواية الجارية حول سرقة الأسورة، وبيعها، وصهرها، قال: "لا أستطيع التيقن من حقيقة ذلك الاتهام بنفيه أو إثباته، ولكنه غريب أن تصدر الواقعة عن مرممة آثار، فعملية الصهر قد يقوم بها شخص ليس لديه معرفة وعلم بأهمية القطعة، خاصة وأن مرممة الآثار تدرس الآثار والترميم معا، وموقعها بالمتحف القديم يؤكد أن لديها خبرة كبيرة بقيمة القطعة الأثرية، فلو سرقتها لن تتجه لبيعها في الصاغة وكانت ستتجه بها اتجاها آخر، وهو التفكير المنطقي".
وحول ما فجرته سرقة الإسورة الأثرية حول انتشار عمليات تقليد القطع الأثرية بدقة شديدة باستخدام وسائل وتقنيات حديثة ووضعها مكان القطع الأصلية، قال الخبير المصري: "هو أمر وارد، وتصلني قصص كثيرة حول ملف الآثار ولا أستطيع الحديث فيها لأن الأمور تمس أشخاصا ولا أستطيع التيقن من الوقائع؛ لكن في قصة الأسورة بعد رواية صهرها لن يكن هناك أصل أو تقليد والقطعة لن تعود، والموضوع فيه ملابسات غريبة".
واقع سيء وثغرات القانون
مضى يؤكد بأنّ: "واقع الآثار المصرية مؤلم سواء في الخارج حيث تعرض القطع المسروقة للبيع وفي الداخل حيث تتعرض للسرقة من المتاحف والمخازن"، ملمحا إلى أن "الأثريين والعاملين في القطاع عاشقون لتاريخ وآثار مصر وأكثر من يعلم قيمتها وأهميتها ويجتهدون في الحفاظ عليها رغم ضحالة الراتب وعددهم القليل الذي يقل عن 30 ألفا ولا يمكنهم من تغطية كل المناطق، ومع ذلك لا ننكر وجود عدد نادر قد ينتهك حرمة الآثار".
وشرحت إحدى مرممات الآثار بالمتحف المصري، طريقة عملهم، موضحة أنها تتم وسط لجان، وبحضور قوات الشرطة، وموظفي مصلحة الدمغة، وكاميرات المتحف، ولجنة من المجلس الأعلى للآثار لأخذ بصمة الأثر، نافية اتهام الأثريين بالفوضى والإهمال، ومشيرة لظروف عمل صعبة ورواتب ضعيفة.
وأشار دقيل، إلى وجود "ثغرات في قانون الآثار وتعديلاته، تسمح بإخلاء سبيل متورطين في هذه القضايا التي نعي أن آخرها بلا عقاب رغم أن أحكامها المقررة تصل للسجن المؤبد".
وأورد بأنّ "قصة علاء حسانين وحسن راتب قد يكون لها أبعاد أخرى أكبر، وقد تكون قضية الآثار موضوعة ربما لعملية تأديب، ولو جرى الحكم عليهم كانوا سيخرجون بسبب ثغرات القانون".
لا يعتقد دقيل، بـ"وجود رابط أو صلة بين ظهور أزمة القطعة الأثرية، وبين قرب افتتاح المتحف الكبير، الذي يحرص القائمين عليه ألا تكون هناك زوبعة قبل افتتاحه الذي كان مقررا بالربع الأول من عام 2019، وتأجل مرات عديدة".
صنعت وبيعت في زمني اضمحلال
أحد مفتشي وزارة السياحة والآثار، أكد لـ"عربي21"، أن "القطعة تعود إلى (بسوسنس الأول) من ملوك (الأسرة 21)، التي حكمت الدلتا فقط، إبان (عصر الاضطراب الثالث)، وكان مقرها ناحية (صان الحجر) بمحافظة الشرقية (شمال القاهرة)، بينما كانت هناك حكومة أخرى بالأقصر".
ولفت إلى أن "الاضمحلال الذي بدأ يسود البلاد في تلك الفترة لم يكن رادعا لبسوسنس الأول، الذي عاش 80 سنة وحكم البلاد 48 منها، لم يرتق فيها عيش المواطن وإنما ازدهر فيها عيش الملك، فأراد أن تزدهر حياته الأخرى أيضا، فبنى لنفسه قبرا قيل إنه أعظم من قبر الملك الذهبي (توت عنخ آمون)، وأمر ابنه أن يبني عليه معبدا للتمويه وتضليل اللصوص".
وأوضح أن "من كنوز هذه المقبرة العظيمة، قناع الذهب لبسوسنس، وغطاء تابوته الذهبي، وحذاؤه الذهبي، وأساور لا تقارن بمثيلاتها في أي عصر، منها ما زاد وزنها عن 600 جرام"، مبينا أن "الإسورة موضوع الجدل، الذي نحن بصدده تزن حوالي 37 جراما من الذهب الخالص وأهميتها ليست في الذهب إنما بفص (اللازورد) النادر فيها".
فالصو للتعمية وتهريب الأثمن
حول الرواية الجارية حول سرقة الإسورة، وبيعها وصهرها، قال: "بالتأكيد أنها لم تُصهر، وإنما تم استبدالها بأخرى (فالصو)، وما حدث وسُرب إنما هو قنبلة دخان"، مؤكدا أنه "حدث للتعمية على ما هو أشد لتهريب ما هو أغلى وأثمن وأندر وأكثر بكثير من مجرد قطعة".
ويرى أن "الزميلة الأثرية المتهمة بسرقة الإسورة لا غافلت ولا سرقت، وإنما تم استخدامها في المشهد حتى تُحبَك الأحداث"، مشيرا إلى أن "متحفا (لوڤر دبي)، و(لوڤر أبوظبي)، مملوءان بالآثار المصرية التي خرجت من مطار القاهرة الدولي في وضح النهار"، مرجحا أن "يتم سفر دفعة جديدة لذات المتحفين العملاقين، في ظل دخان إسورة انشغل بها المصريون".
وخلال افتتاح متحف "لوفر أبوظبي" 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، جرى الكشف عن وجود 5 قطع أثرية مصرية بأروقة المعرض، فيما تبين لاحقا أن الآثار المعروضة تمت سرقتها من مصر عام 2011، وبيعت بنحو 8.6 مليون دولار، لتظهر لاحقا في المتحف، بحسب تقارير صحفية.
وفي أيار/ مايو 2022، أوقفت فرنسا المدير السابق لمتحف "لوفر باريس"، جان لوك مارتينيز، وتاجر ألماني من أصل لبناني، و2 من أساتذة المصريات الفرنسيين، بتهم تسهيل والتغاضي عن شهادات المنشأ لـ5 قطع آثار مصرية مهربة ومعروضة بلوفر أبوظبي، وفق صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية.
لهذا الرواية غير منطقية
أوضح المفتش الأثري أنه "لو رأيت الڤيديو الرائج من محل الصاغة، انظر كيف ثنى الجواهرجي الأسورة بسهولة ويسر؛ وهو ما لا يمكن مع أسورة تزن 37 جراما، ثم انظر إلى ما تم تسريبه عمدا من صور للأسورة العظمى 600 جراما على أنها الأسورة المسروقة؛ فليس هذا عن حسن قصد وصلاح طوية إنما لتمييع الهوية وتضليل الوعي عند الناس وإحداث بلبلة مقصودة حتما".
وتابع: "ثم إن جرام الذهب ليس بـ120 جنيها حتى يكون ثمنها كذلك"، موضحا أنهم "حسبوها على أنها 37 جرام × 5 آلاف جنيه= 185 ألفا، ونسوا أنهم قد زجوا بضحية هي أخصائية ترميم آثار بالمتحف المصري القديم، ما يعني أنها من صفوة أطباء الحضارة، فكيف تبيعها على أنها ذهب حديث عيار 24، بينما جرام الذهب الفرعوني يبيعه البائعون (المهربون) بعشرات الآلاف من الدولارات؟".
وفي تعليقه على تزامن ظهور قصة الإسورة المسروقة مع قرب افتتاح المتحف الكبير، والإفراج عن علاء حسانين وحسن راتب في قضية غسيل الأموال بقضية الآثار الكبرى، نفى أن يكون لما حدث علاقة بافتتاح المتحف الكبير، وأكد أنه "لا يتم الإفراج عن أحد من تلكم النوعية من المتهمين بتهريب الآثار إلا بتفاهم ما وصفَقَة كبرى".