قضايا وآراء

إعلام الجماهير".. كتاب أزاح الغبار عن الكاسيت وأشرطته

يمكن لشريط كاسيت أن يساعد المؤرخ والباحث الاجتماعي في ملئ فراغات حيال مباحث تاريخية واجتماعية، فارغة أو مُهملة.
شهدت الدورة الأخيرة من معرض القاهرة الدولي للكتاب، يناير 2025، صدور النسخة العربية من كتاب "إعلام الجماهير: ثقافة الكاسيت في مصر" للكاتب الأمريكي "أندرو سايمون" والتي تولى ترجمتها المترجم "بدر الدين الرفاعي"، ويمتاز كتاب "إعلام الجماهير" بحداثة موضوعه، حيث أن نسخته الإنجليزية صدرت للمرة الأولى عن جامعة ستانفورد في عام 2022، ضمت في جنباتها ثمرة جهود سايمون الذي عاش في مصر ردحًا من الزمن تعلم فيه اللغة العربية التي ساعدته كثيرًا في التعامل مع الوثائق أو المصادر الحية.

في البداية لم يكن سايمون يخطط حقًا لكتابة موضوع كتابه، الأمر كله نتاجًا لصدفة جمعته بأحد أكشاك السجائر في ضاحية المعادي بالقاهرة عام 2015، حيث فوجئ سايمون بشرائط للكاسيت مرمية خلف البضاعة المعروضة، وكأن صاحب الكشك ذاتها نسى لما كانت هنا من الأساس. "عصر الكاسيت خلاص"، قالها ناصر صاحب الكشك لسايمون، لتكون تلك الجملة إلهامًا لموضوع البحث، الذي أراد أن يحيي تاريخًا لتقنية يمكنها أن تشرح الكثير عن حياة المصريين في النصف الثاني من القرن العشرين.

غيرت تكنولوجيا الكاسيت واقع المشهد الذي سيطرت عليه الدولة ومؤسساتها الرسمية من خلال احتكارها وسائل الإعلام ونشر الثقافة، بل خلقت مشهدا جديدا، فقد أصبح بمقدور أي شخص يمتلك جهاز للتسجيل التحول من مستهلك ثقافي إلى منتج للثقافة ذاتها، وكما يرى "بدر الرفاعي" مترجم الكتاب في مقدمته، أن هذا الإنتاج الجديد، شكَّل تهديدًا لمركزية التحكم في المنتج الثقافي من جانب الدولة وأجهزتها في القرن العشرين.
في كتابه، يرصد سايمون ملمحًا جديدًا في الحديث عن ثقافة الكاسيت، في مصر السبعينيات والثمانينيات، والذي كان يتركز دائمًا حول تحليل ظاهرة صوتية وأثرها الاجتماعي للمطرب الشعبي "أحمد عدوية" مثلًا، كما يظهر في كتاب الأنثروبولوجي والتر أرمبرست في "الثقافة الجماهيرية والحداثة في مصر" الصادر عن سلسلة كتب جامعة كامبردج للأنثروبولوجيا الاجتماعية عام 1996.

يمكن اعتبار عمل سايمون مكملًا لعمل أرمبرست، فالكاسيت كما يؤرخ له سايمون، لم يكن ساحة لمعركة بين فن هابط وفن رفيع، أو حول الحفاظ على القيم الجمالية كما حاول حماة الثقافة والأخلاق تصويره، بقدر ما كان صراعًا حول من له حق صناعة الثقافة والفن في مجتمع متغير، شرحت تفاصيل ذاك الصراع جانبًا من تاريخ مصر.

غيرت تكنولوجيا الكاسيت واقع المشهد الذي سيطرت عليه الدولة ومؤسساتها الرسمية من خلال احتكارها وسائل الإعلام ونشر الثقافة، بل خلقت مشهدا جديدا، فقد أصبح بمقدور أي شخص يمتلك جهاز للتسجيل التحول من مستهلك ثقافي إلى منتج للثقافة ذاتها، وكما يرى "بدر الرفاعي" مترجم الكتاب في مقدمته، أن هذا الإنتاج الجديد، شكَّل تهديدًا لمركزية التحكم في المنتج الثقافي من جانب الدولة وأجهزتها في القرن العشرين.

تاريخ شاغر يملؤه "شريط"

يمكن لشريط كاسيت أن يساعد المؤرخ والباحث الاجتماعي في ملئ فراغات حيال مباحث تاريخية واجتماعية، فارغة أو مُهملة. لا يتأنى له هذا لمجرد ماهيته كوسيلة لتسجيل الصوت، ولكن بوصفه "شيئًا" أو جمادًا من الأشياء التي يُمكنها أن تقول الكثير عن تاريخ البشر، كأدوات الطهي والصيد لدى الإنسان البدائي مثلًا والتي تحكي لنا الكثير عن حياة الإنسان قبل الحضارات.

يقتبس سايمون في كتابه عن كتاب "أجراس الأرض" للمؤرخ الفرنسي آلان كوربين حين يقول "سيندهش كثيرون من فكرة تناول رنين الجرس موضوعًا للفحص التاريخي، لكنه يوفر لنا في الحقيقة اتصالًا مميزًا مع الماضي الذي فقدناه". من خلال هذا الاقتباس، يمكن أن نبني فهمًا لمنهج البحث التاريخي عند سايمون في اختياره شريط الكاسيت بالخصوص، كمثيل لتاريخ المجتمع المصري في القرن العشرين.

ينهض كتاب "إعلام الجماهير" بمهمة مختلفة عن المواضيع التقليدية كما يتعهد كاتبه، فهو يعيد توجيه روايات الأحداث التاريخية المهمة، إلى أمور عادية أكثر مثل الموسيقى، وبدلًا من تفصيل موضوع تعزيز السلطة، يلفت الإنتباه إلى منازعتها، ويتجاوز الديني إلى الدنيوي، مستخدمًا الإسلام كعدسة واحدة، وليست وحيدة، لفهم المجتمع المصري، ونتيجة ذلك البحث الذي يريد الكاتب أن يستوعبه قارئه، هو تاريخ جذري، بدون كرونولوجيا سردية، يتجاوز البرامج السياسية والأحداث الفاصلة والحركات الدينية والنقاشات الفكرية. أي أن تاريخ، الكاسيت عند سايمون يسلط الضوء على تطورات واسعة النطاق نادرًا ما ظهرت بشكل متناسق، لنرى من خلالها، كيف عاش المصريون من كل الفئات في مجتمع دائم التحول. 

ورغم ذلك الهدف الذي وضعه سايمون لكتابه ومنهجيته، لا يبدو أنه وُفِقَ بشكل تام في تحقيقه، ففي تناوله لتاريخ تلك "الفئات" في "مجتمع دائم التحول"، بدا أكثر تركيزًا على الاختلافات الطبقية، فإذا أردنا رؤية المجتمع المصري في الكتاب هرميًا، سنجد أن فئات الصراع قُسمت كالآتي: "السلطة في الأعلى كصناع للثقافة، الموظفون كمُنفذي القوانين الرقابية على الثقافة، المثقفون كحماة الثقافة والمدافعين عن الأخلاق" وفي أسفل الهرم "صناع الثقافة والسرديات الموازية". ذلك التقسيم رغم نجاح الكتاب في التعبير به عن فكرة من أهم أفكار الكتاب عن الصراع على صنع الثقافة واحتكارها، لكنه أغفل فئات أخرى كان يمكنها أن تندرج في بحثه، كالنساء مثلًا، فأغلب ما يواجهنا في الكتاب حالات يطغى فيها الحضور الذكوري في التعامل مع تلك التكنولوجيا. ومن ناحية أخرى دينية، نجد أن استخدام غير المسلمين للكاسيت يكاد لا يحضر إطلاقًا، ففي هذا الكتاب كالعادة نجد "الشيخ كشك" مثلًا تطبيقيًا عن دخول الكاسيت في الحيز الديني للمسلمين من المجتمع المصري، ولكننا لا نجد نسخة مسيحية موازية للشيخ كشك. 

الشيخ إمام مؤرخًا

بالحديث عن فكرة أخرى من أفكار سايمون في الكتاب، نجد أن واحدة من فرضيات الكتاب الرئيسية، أن "الأغنية" المستقلة عن وسائل الإذاعة الرسمية يمكنها أن تشكل سردية أخرى للتاريخ تحطم السردية الرئيسية، في هذا السياق نجد أن أغاني الشيخ إمام بإمكانها أن تكتب تاريخًا آخر للشرق الأوسط على حد إدعاء سايمون.

في زمنه، كان "شريط الكاسيت" وسيلة هامة جدًا لنشر الروايات الموازية، والمناقضة، للروايات الرسمية في كثير من المواقف، وقد أسهمت في إعادة كتابة تاريخ آخر لأحداث يُعرّج الكاتب عليها في مؤلفه ويفرد لها فصلًا كاملًا، كحادثة زيارة الرئيس الأمريكي "نيكسون" لمصر في سبعينيات القرن الماضي، والتي احتفت بها وسائل الإعلام  احتفاءً كبيرًا نظرًا لكونها حادثة لها ما بعدها، وتقطع قطعًا كاملًا مع ماضي العلاقة بين مصر والولايات المتحدة، كون نيكسون أول رئيس أمريكي يزور مصر بصفة رسمية، ومن ناحية أخرى كيف استغلت وسائل الإعلام تلك الزيارة في بناء صورة لشخص الرئيس السادات بذاته المستقلة وليس كتابعًا على خط عبد الناصر.

كيف يمكن للمنتجات الثقافية الأخرى من شمال إفريقيا إلى الخليج العربي إعادة توجيه تاريخ الشرق الأوسط وفهمنا له؟ كيف يمكن للحسابات التاريخية الدقيقة للثقافة الشعبية أن تعيد تصور تشكيل الأمم الحديثة؟ وما مستقبل الثقافة الشعبية كمجال للبحث الأكاديمي في دراسات الشرق الأوسط؟
يعيد سايمون كتابة ذلك الحدث التاريخي مناقضًا الحملة الإعلامية الضخمة المُروجة له، من خلال أغنية للشيخ إمام كتبها الشاعر أحمد فؤاد نجم تحت عنوان "نورت يا نيكسون بابا"، دلالة هذه الأغنية التي انتشرت كثيرًا في أيامها، أن الكاسيت مكَّن أشخاصًا مثل إمام، ليس فقط من انتقاد الأنظمة الحاكمة، ولكن كذلك أعطى أصواتهم القدرة على تفكيك القصص التي ترويها بصوت عال.

يرى سايمون أن الشيخ إمام في أغانيه قوض روايات الدولة المهيمنة عن الأحداث المعاصرة في أكثر من مناسبة وأمام جمهور عريض، الهزيمة في حرب الستة أيام في أغنية "خبطنا تحت باطتنا"، أو وعود الرئيس الفرنسي الكاذبة والوهمية لنظيره السادات في أغنية "فاليري جيسكار ديستان"، أو تقديم مصر كبقرة جفت ضروعها من نهب الضباط "الأحرار" حتى أصبحت هزيلة من خلال قصيدة "بقرة حاحا" التي عاكس فيها السردية التي قدمها إعلام عبد الناصر القوي عن مصر الناصرية ومنجزها الاجتماعي والاقتصادي.

استطاع الكاسيت أن يحفظ حيوية تلك الأغاني التي باتت يُعاد ترديدها ليس في زمن إمام وحده، بل وفي ثورات الربيع العربي عام 2011، بعد وفاة إمام بثلاثة عقود تقريبًا، وما زالت حتى اليوم.

من خلال الأشرطة التي خلفها إمام وراءه، يستخلص سايمون أن المنتجات الثقافية لا تعكس فقط التطورات التاريخية، بل تلعب دورًا أنشط في تشكيل التاريخ. هنا، يحتج بالباحثين الذين يستعينون بالمنتجات الثقافية سواء في شكل أفلام أو روايات أو رسوم كاريكاتورية أو قصائد أو منتجات إبداعية أخرى لا حصر لها، من أجل توضيح ما نعرفه بالفعل عن الشرق الأوسط وماضي المنطقة وثراءه. ومن ذات الناحية، لا يحتاج المرء إلا إلى النظر في الكيفية التي عملت بها كلمات العديد من الأغاني المصرية على تعزيز أجندة عبد الناصر القومية العربية بشكل مسموع. في حالة إمام مثلًا، يمكن أن نرى كيف تتحدى تسجيلات الكاسيت غير الرسمية، ما نعتقد أننا نعرفه بالفعل، كحالة أغنية "نيكسون بابا" أثارت عدة أسئلة أشمل فيما يخص تلك الزيارة التاريخية وكيف أرختها وسائل الإعلام المصرية.

كيف يمكن للمنتجات الثقافية الأخرى من شمال إفريقيا إلى الخليج العربي إعادة توجيه تاريخ الشرق الأوسط وفهمنا له؟ كيف يمكن للحسابات التاريخية الدقيقة للثقافة الشعبية أن تعيد تصور تشكيل الأمم الحديثة؟ وما مستقبل الثقافة الشعبية كمجال للبحث الأكاديمي في دراسات الشرق الأوسط؟

لا يحاول سايمون في كتابه أن يجيب عن تلك الأسئلة كلها، بل يحاول أن يطرح المزيد من الفرضيات التي تعزز مشروعية وطموح طرحها كوسيلة تعد بتعزيز إعادة كتابة تاريخ الشرق الأوسط، وكتابة فصول لم تكتب فيه من الأساس.