ما دفعني
لكتابة هذا المقال هو قراءة مقال آخر، منذ أيام، بعنوان "ضد
الذاكرة الإمبريالية- الحرب الطويلة على
إيران" (Against
Imperial Memory: The “Long War” on Iran") المنشور على جريدة
الأخبار اللبنانية بنسختها الإنجليزية الجديدة، والتي
كانت تناقش كاتبته، جنى مدَّاح، موضوعا مثيرا حول الذاكرة وتاريخيّاتها وسياقاتها
الكلّية لا المجتزأة أو الانتقائية؛ طالما نتحدث عن ذاكرتنا الجماعية، وماهيّتها،
وكيف تُشكّل؟ ومن يُشكّلها؟ لا سيما ما بعد الحروب والثورات وتحديدا ما بعد
الاستقلال من الاستعمار، أي أنه نقاش يتبع ما يسمّى دراسات ما بعد الاستعمار. لذا،
من هنا، أحاول طرح نقاش ونقد هادئ للمقال -لا تصيّد أو هجوم- بل نقاش يُشجعنا
جميعا حيال معرفة، كيفية تفادي انتقائية السردية، التي نحاول مقاومتها عبر حكي
التاريخ بذاكرتنا لا بالذاكرة التي يريد أن يرسّخها المُستعمِر في وجداننا.
اتخذت
الكاتبة الحرب الإسرائيلية الأخيرة على إيران مثالا، كي ترجع بالذاكرة حيال
المقاومة الإيرانية لما قبل الثورة الإيرانية على نظام الشاه، بل بدءا من أيام
ثورة التبغ، فيما تُحاول نبذ السرديات التي تصور أن
الصراع مع الهيمنة الإمبريالية
ليس وليدا للحظة الراهنة، بل هو مُمتد إلى عقود مضت. هذا صحيح، فلا يُمكن اعتبار
الحرب على إيران منذ قيام الثورة، وجمهوريِتها الإسلامية عام 1979، هي بداية قصة
الهيمنة والمقاومة، ولا يمكن أن تكون عملية السابع من أكتوبر هي بداية الصراع،
وإنكار قرابة قرن كامل من بدء احتلال فلسطين، كما يفعل بعض مستشرقي/مُنبطحي الغرب
والعرب. كذلك، وبشكل مجرّد، لا نستطيع إهمال تاريخ معين من أجل إظهار تاريخ آخر
لذات الحركة/ الدولة/ المؤسسة/ الإنسان.
تمجيدا للنظام الإيراني، ولا شيطنته، بقدر ما هو إنصاف له، ورؤية تاريخه كاملا بلا انتقاص، فهو نظام معاد للإمبريالية منذ نشأته، وأيضا قمعي توسعي، ويحافظ على بقائه بكل الطرق، كما تفعل أنظمة أُخرى. هذا لا يتعارض مع الواقع التاريخي
برغم
انتقادها ظاهرة انتقائية التاريخ، ما يدجّن الذاكرة، ويُحدث قراءة خاطئة للتاريخ
وما يليه من فعل في الحاضر، لكن وقعت الكاتبة فيما حاولت نقده، فكما عددَتْ شواهد
الذاكرة المقاومة ضد الإمبريالية وهيمنتها على مقدّرات البلاد، من خلال أحداث
متمردة وثورية مثل اضطراب التبع (1891–1892)،
والثورة الدستورية (1905)، الانقلاب على محمد مصدّق (1953)، وغير ذلك من وقائع
متمردة للشعب الإيراني ونظامه الجمهوري الجديد، بعد عام 1979، ضد الإمبريالية سواء
البريطانية أو الأمريكية/ الإسرائيلية. لكنها، افتقدت وقائع أُخرى تعاونت فيها إيران
مع الإمبريالية نفسها (أمريكا وإسرائيل)، في سنوات الحرب العراقية/ الإيرانية
(1980-1988)، فكانت حلقات التواصل بين إيران وإسرائيل ومعهما أمريكا مستمرة ولم
تنقطع -كما كانت تدَّعي أمريكا في العلن- من أجل القضاء على النظام العراقي، أو
على الأقل إضعافه وألّا يخرج من الحرب سوى بجيش مُنهك، فلا يستطيع تهديد أمن
إسرائيل، فكانت ترى الثانية أن النظام العراقي، في تلك المرحلة، هو أخطر عليها من
النظام الإيراني الجديد.
"إيران كونترا أو إيران غيت" هكذا تُعرف صفقة الأسلحة الشهيرة التي تم بيع أسلحة أمريكية إلى إيران
بواسطة إسرائيلية بين عاميّ (1985-1986)، وقد تم الاتفاق حينئذ بين جورج بوش الأب،
الذي كان يشغل منصب نائب الرئيس ريغان، ورئيس الوزراء الإيراني أبو الحسن بني صدر
في العاصمة الفرنسية باريس، بحضور آري بن ميناشيا؛ مندوب المخابرات الإسرائيلية
الخارجية "موساد".
هذه الصفقة استفادت منها إيران بتزويدها بأسلحة كانت تحتاجها بشدة في حربها مع
العراق، النظام الممانع والأخطر على إسرائيل حينها، كما استفادت الولايات المُتحدة
من حيث إطلاق سراح أسراها من لبنان، هذا فضلا عن اللقاءات التي لم تنقطع في باريس،
بين مسؤولين إسرائيليين وإيرانيين منذ بدء الحرب، والحديث عن خرائط وصور
فوتوغرافية للمفاعلات النووية العراقية، أعطتها إيران لإسرائيل لمساعدتها في تحديد
موقع المفاعل النووي العراقي الأشهر، أوزيراك، والتي قُصف في حزيران/ يونيو 1981.
كل هذه الكواليس معروفة لمن يبحث عنها
جيدا. هنا
شهادة مساعد وزير الخارجية الأمريكي السابق
ريتشارد ميرفي حول كواليس قصة الأسلحة، كما في
كتاب "التحالف
الغادر: التعاملات السرية بين إيران وإسرائيل والولايات المتحدة"، لمؤلفه
تريتا بارزي، وهو مرجع وشاهد قوي على تلك الفترة، إذ يحوي 130 مقابلة مع مسؤولين
إيرانيين وإسرائيليين وأمريكيين. وغيره من عشرات
المراجع الموضوعية والشهادات
المهمّة في فهم الكواليس والتحالفات السياسية المتناقضة.
مثال آخر على انتقائية إيران ذاتها في
رؤيتها للممارسات الإمبريالية، إذ يوم أن أُعدم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين،
كانت الصحف والوكالات الرسمية الإيرانية تبتهج لإعدامه، كما صرح أكثر من مسؤول
إيراني مثل علاء الدين بروجردي؛ رئيس لجنة السياسة الخارجية والأمن القومي في
البرلمان الإيراني، وأيضا حميد رضا آصفي؛ المساعد البرلماني للخارجية الايرانية،
بأن هذا يوم "النصر" للشعب الإيراني. في مفارقة تاريخية، أنه خلال الحرب الإسرائيلية على إيران، كان
ترامب ومن ورائه نتنياهو يهددون باستهداف خامنئي. فماذا لو كانوا قتلوه؟ هنا يصبح
المُرحبون خونة، ومُنبطحون للإمبريالية، لكن خامنئي نفسه غرّد في الذكرى الـ13
لإعدام صدام حسين، ناصحا العالم أن "يتخذوا
صدام حسين عبرة، وأن الله بقوته أباد قوته الهشّة"، فاستبدل خامنئي
الأمريكان بالقوة المُثلى الإلهية. هكذا كان صدام ديكتاتورا ممانعا، تبتهج إيران
حين تقتله الإمبريالية، لكن ماذا عن خامنئي؟ فما الفرق هنا؟ الفرق أنّه علينا
معرفة أن محاسبة أي من هذه الديكتاتوريات في منطقتنا، وأولها مصر، هي حصرا بيد
شعوبها، وفقط، لا إمبريالية كاذبة تدّعي الخلاص لتلك الشعوب.
هذه الحقبة كانت مثالا مثاليا لمعنى
التناقضات السياسية. ياسر عرفات، وهو لا يمثل نفسه بل كان يمثل منظمة التحرير
الفلسطينية، كان أول مسؤول يذهب إلى الخميني كي يُهنئه بانتصار الثورة، كما كان
مبعوثه إلى صدام للتهدئة قبل الحرب، وحين احتلال صدام الكويت كان عرفات مناصرا له،
متخلّيا عن الكويت التي كانت أكبر داعمي القضية الفلسطينية وتنظيماتها، ما تسبب في
القطيعة، فلم تكن تنقلات عرفات بين المُتنازعين العرب غريبة، إذ كان حافظ الأسد،
البعثي "الممانع"، مؤيدا ومشاركا للأمريكان في القضاء على الجيش العراقي
في الكويت، مقابل سماح الأمريكان له بإعلان سيطرته الأمنية على لبنان، الدولة
اليتيمة في سُلطتها المركزية، والمُجتمع الذي يحتمي بالطائفية من اليُتم. حتى
اختزال تاريخ السلفية الجهادية المُقاوم للإمبريالية في نسخ تكفيرية أو براغماتية،
وربما "تطبيعيّة"، مثل تنظيم الدولة أو إدارة سوريا الجديدة، هي محض
انتقائية يروّج لها دوغمائيو اليسار والعروبة والتشيّع، والعكس صحيح.
من هنا، ننتقل إلى الانتقائية في النظر إلى
القاتل والضحية -ولا أتحدث عن المقال- لكن أتحدث عمّن هم ينظرون إلى الضحية وفقا
لقاتلها فحسب، ويتركون أي أشياء أُخرى، طالما أن القاتل غير إمبريالي إحلالي،
أمريكي/إسرائيلي. العائلات الفلسطينية التي مُسحت من السجلات المدنية في حرب
الإبادة على غزة، ذاتها مُسحت بواسطة آلة قتل نظام الأسد وحلفائه، كما الصواريخ
الإسرائيلية التي تقتل الشباب في جنوب لبنان، مثلهم تماما (ومنهم صديق لـي)،
صُفَّوا جسديا من قبل قوات الأمن المصرية. هكذا، سنُعدد مئات الأمثلة في أشكالها
المتماثلة من حيث القتل والتدمير.
إن الاستخفاف أو التغافل عن التوحش، إن جاء
من قوة غير مُستعمرة، هو شيء ليس غير أخلاقي فحسب، بل هو يخطو مسارا خاطئا، إذ كنت
من قبل كتبت أن
مقاومة الاستعمار الإسرائيلي تبدأ عند
محو الاستبداد العربي، هذا بعدما وصلت أنظمتنا العربية إلى حالة من الاستبداد لا يمكن التسامح معها، والتي اتضحت
تماما من خلال مواقفها من إبادة غزة، وترسخت عندي قناعة بأنّه لا سبيل نحو تقدم
حقيقي للقضية الفلسطينية، ولا للحياة من الأساس، في ظل هذه السُلطويات، والتي لا
يهمها سواء الهيمنة على المجتمع والبقاء في السُلطة.
إن الذاكرة المنصفة مُتعِبة ومؤلمة، ولها أثمان باهظة، بما تدفعنا جميعا نحو مراجعة أنفسنا في كل ما نعتقد وننتمي ونمشي، وتأتي لنا بالتعب المُضاعف بما أنها تحتاج منّا إلى قراءات ومسارات مُنهكِة، ووعي ذاتي نقدي، يحارب التخنّدق وينقذنا من الرؤى المؤطّرة مُسبقا
ليس
تمجيدا للنظام الإيراني، ولا شيطنته، بقدر ما هو إنصاف له، ورؤية تاريخه كاملا بلا
انتقاص، فهو نظام معاد للإمبريالية منذ نشأته، وأيضا قمعي توسعي، ويحافظ على بقائه
بكل الطرق، كما تفعل أنظمة أُخرى. هذا لا يتعارض مع الواقع التاريخي، مثلما كانت
أنظمة عبد الناصر والقذافي وصدام والأسد وغيرهم، وفي التفاوض أيضا. كانت تلك
الأنظمة أولويتها البقاء، وشواهد هذا البقاء كثيرة، من شراء الأسلحة الأمريكية إلى
مفاوضات عُمان وروما والطائف، وصولا إلى الصواريخ الإيرانية التي قصفت قاعدة
العديد الأمريكية، بإبلاغ مُسبق بحجم الضربة، وبلا أي تأثير أو ضرر، كونها ضربة
ختامية لهذه الجولة من الصراع.
نهاية،
لن يفيدنا التطبيع مع الذاكرة الانتقائية في شيء، ليست ذاكرتنا التاريخية/السياسية
فحسب -ولو أنني لا أفصل بينها وبين الذاكرة الذاتية- إنها الذاكرة الإنسانية
بشكلها الكلّي بما تحمله من سياسة وتاريخ وسجن وحرب ومشاعر وتمثلات حياتية أُخرى.
لكن، ما أن يسلُك أي إنسان انتقائيته في الذاكرة، فهو يُكرر ذات السرديات الإمبريالية،
بشكل آخر، وبِحكاية أُخرى منقوصة.
إن
الذاكرة المنصفة مُتعِبة ومؤلمة، ولها أثمان باهظة، بما تدفعنا جميعا نحو مراجعة
أنفسنا في كل ما نعتقد وننتمي ونمشي، وتأتي لنا بالتعب المُضاعف بما أنها تحتاج
منّا إلى قراءات ومسارات مُنهكِة، ووعي ذاتي نقدي، يحارب التخنّدق وينقذنا من
الرؤى المؤطّرة مُسبقا من قبل العائلات والتنظيمات والمؤسسات المُنتمين لها،
تحديدا الصحف وسرديّاتها، وربما تضحيات أُخرى، كما تجعلنا نفهم، ونتفهم، كل
المواقف الأخلاقية المركَّبة، والخطوط السياسة المبنية على الحقائق لا بروباغندا الخطابات، وأن الحياة أوسع من
ثنائيات ضيقة، كما تقول الكاتبة مدَّاح: "من
دون ذاكرة، لا يوجد طريق"، لكن من دون ذاكرة منصفة، لنا أولا، لن يوجد
طريق صحيح. وأتفق كذلك أنه بلا طريق، منصف وحقيقي وصادق "يصبح التحرر شعارا".