مقالات مختارة

لماذا يؤرقهم ضريح القسّام؟

أرشيف
يوم الثلاثاء الأخير، وخلال جلسة لجنة الداخلية في حكومة الاحتلال، طالب وزير الأمن القومي الكاهاني الفاشي إيتمار بن غفير رئيس بلدية نيشر شرقي حيفا، بهدم ضريح الشيخ عز الدين القسام الموجود في مقبرة قرية (بلد الشيخ) المهجرة، التي تسيطر على أرضها بلدية مدينة نيشر، وعلل طلبه هذا بقوله «لا يمكن للإرهابيين أن يرتاحوا حتى في الموت». نيشر لم تكن مدينة ولا حتى قرية، عندما جاء القسام من الساحل السوري إلى حيفا عام 1921.

نيشر (النسر) كان مصنعاً للإسمنت باستثمار بريطاني على سفوح جبال الكرمل الشمالية الشرقية، وذلك لتوفر المواد الخام في المنطقةـ والأيدي العاملة من بلد الشيخ ومحيطها من العرب، حتى عام النكبة، حيث هُدمت بلد الشيخ، وهجر سكانها بعد مجزرة ارتكبتها قوات الاحتلال الصهيونية فيها.

لم يكن القسام مجاهداً في فلسطين فقط، بل كان من أولئك الشيوخ الأزهريين، الذين يُصدقون الإيمان بالعمل، وكان عصياً على التدجين. فقد خاض نضالاً ضد الفرنسيين في سوريا، على الرغم من محاولات سلطات الاحتلال إغراءه وتحييده، من خلال وسطاء من السوريين أنفسهم لإقناعه بالعدول عن الكفاح، ولكنه أصر على مقاومة الاحتلال الفرنسي.

وضعت السلطات الفرنسية عشرة آلاف ليرة انتدابية جائزة مقابل رأس الشيخ ابن بلدة جبلة الساحلية، وحكمت محكمة محلية سورية تحت سيطرة الفرنسيين عليه بالإعدام، فانتقل إلى لبنان، ثم إلى عكا في فلسطين ثم حيفا، ليعمل مدرسا في مدرسة الإناث الإسلامية. شغل مَهمة الإمام لمسجد الاستقلال الذي تأسس عام 1925 في حيفا وعمل مأذوناً شرعيا.

في خطبه حرض الناس على الجهاد، مستغلاً المنبر والمركز الديني، الذي حظي به، وحذّر من الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، بل دعا الناس إلى اقتناء السلاح والتدرب عليه، بدلاً من الزينة في الأعياد والمناسبات قائلا لهم، «إن الزينة لن تنفعكم إذا ما سُلِبت أرضكم». في إحدى خطبه، دعا الناس إلى شراء السلاح، بدلا من دفع رسوم وتكاليف السفر إلى الحج. وهو صاحب العبارة التي يرددها الناطق العسكري باسم كتائب القسام أبو عبيده في بياناته «وإنه لجهاد نصرٌ أو استشهاد».

التاريخ يعيد نفسه، فقد توجه القسام إلى الملك فيصل في سوريا وطلب مؤازرته، ولم يحظ بإجابة، وتوجه إلى الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين الأكبر، وطلب منه تهيئة الثورة المسلحة في منطقة القدس، فرد عليه بأنه في هذه المرحلة يفضل الحل بالمفاوضات.. الذي استجاب للقسام هو الشيخ راشد الخزاعي الفريحات أمير حاكمية عجلون، فأمده بالمال والسلاح ومنح الأمان لرجاله. استشهد الشيخ خلال مواجهة مع جيش الاحتلال الإنكليزي في أحراش بلدة يعبد شمال غرب مدينة جنين، وذلك في 20 تشرين الثاني/نوفمبر 1935. واستشهد معه عددٌ من رفاقه.

كتبت صحيفة «فلسطين» الصادرة في يافا، التي ترأس تحريرها عيسى العيسى في صفحتها الأولى فوق صورة القسام «المجاهد الشهيد»، وذكرت أن جنازته كانت أكبر جنازة في حقبة الانتداب، رغم قيود الاحتلال البريطاني، ومحاولة تحديد عدد المشيعين – وهو بالضبط ما يفعله الاحتلال الوريث.

وحسب التقارير البريطانية، فقد استشهد ما بين 5000 إلى 5300 إنسان من العرب خلال سنوات الثورة الثلاث، وجُرِح حوالي 20 ألفا. بينما بلغ عددُ القتلى البريطانيين ما بين 200 إلى 250 عنصرا، كذلك قتل عدد من ناشطي العصابات الصهيونية في مواجهات مع الثوار العرب.

في إسرائيل يعلّمون الأجيال الصاعدة في المدارس أن الحركة الصهيونية حررت «أرض إسرائيل» من الاحتلال البريطاني، في إيهام بأنهم هم الذين قاوموا الاحتلال البريطاني، وهم الذين حرروا البلاد! بينما يُصور العرب الذين قاوموا الاحتلال، على أنهم إرهابيون ومجموعات من البدو ولصوص يسرقون المحاصيل الزراعية ويقطعون الأشجار. هذا ما يفعله المستوطنون في الواقع.

ممكن أخذ تلك الحقبة كنموذج طبق الأصل لما يحدث اليوم، مع التأكيد على أن ما يجري اليوم أشد وحشية مما جرى قبل تسعة عقود، وحتى أشد وحشية من نكبة الثمانية وأربعين. مشكلة إيتمار بن غفير ومن سبقوه مع القسام، أن ضريحه شاهد على مقاومة عربية مسلحة للاحتلال البريطاني والفرنسي والاستيطان الصهيوني في فلسطين!

وما يجري اليوم، ليس سوى تداعيات لما بُدِء به، ولما ينته بعد منذ قرن. فالتاريخ في مختلف تفاصيله من مقاومة وخيانة وتواطؤ وخذلان، لم يبدأ في تشرين الأول/أكتوبر 2023، بل هو سلسلة من حلقات مستمرة، ويبدو أنها لن تنتهي في العقود القريبة. ضريح القسام «يجب أن يمحى»، لحجب حالة فريدة عن وعي الأجيال القادمة، كي يستفرد بن غفير وأمثاله في قلب الحقائق والتنكيل بالتاريخ.

هدم المقابر والأضرحة والمقامات روتين مارسته إسرائيل منذ تأسيسها ولم تتوقف عنه حتى يومنا هذا، حتى إنهم يزورون هوية وأصول بعض الأضرحة، وقد تجد ضريح شيخ مسلم وقد صار أو حاولوا تزويره، مثل ضريح الشيخ شحادة في قرية عين غزال على سفح الكرمل الغربي، الذي اقتحموه عام 2004 وكتبوا عليه «ضريح الراب جدعون بن عزرا»، ولكن وبعد صراع أعيد إلى صاحبه وساكنه الشيخ شحادة.

التاريخ مزيف ولا بد من مواصلة تزويره وتزييفه، كي تستمر الكذبة الكبرى. هذا هو السر الذي يجعل ضريحاً في طرف مقبرة بلدة مُهجرة عامل أرق للسلطات، حتى أنهم حاولوا قبل عقدين هدم المقبرة كلها بحجة شق شارع. خاضت القوى الوطنية في الداخل نضالاً قانونياً وشعبياً قادته الحركة الإسلامية (التي يقودها نتنياهو حسب عباقرة الإعلام المصري)، ومنعت هدم المقبرة كلها.

هذا الرمز يؤرق الكاهانيين، فهو وثيقة تاريخية تشهد من هو الذي قاوم الانتداب البريطاني، ومن الذي دفع الثمن، ومن باع الوطن من نَكرات ومتواطئين، ومن الذي قطف الثمار، ومن يعد نفسه أو يعدونه لقطف ثمار تضحيات ملايين من البشر. وهدم ضريح القسام يعتبر هدية للفرنسيين وللبريطانيين الذين قاومهم هذا الرجل.

بن غفير يبرهن كما فعل غيره من قبله، بأنه الوريث وابن الاستعمار والاحتلال الأجنبي. وهو يذكر المستعمِرين بأنهم كانوا وما زالوا مسؤولين عن رعايته وحماية همجيته. ما لا يفقهه الوزير الفاشي أن هدم الضريح لا يعني إلغاء الشيخ عز الدين، ومحو تراثه من ذاكرة الشعوب العربية وخصوصاً الفلسطيني، فالشعوب الحية تعرف كيف تخلد أعلامها.

القدس العربي