مقالات مختارة

خياران لا ثالث لهما

الأناضول
في الوقت الذي يبذل فيه المجتمع الدولي جهودا حثيثة لوقف حرب الإبادة الجماعية والمجاعة في غزة، يصعّد نتنياهو اللهجة ويقرر مجلسه الأمني المصغر احتلال غزة من البر إلى البحر في تحد صارخ للمجتمع الدولي الذي طفقت فيه بعض الدول الوازنة في مجلس الأمن وعلى استحياء تلوِّح بوقف إمدادات الأسلحة وتقليص حجم التعاملات الاقتصادية والتجارية مع تل أبيب، لكن يبدو أن الضغط الدولي رغم سقفه العالي لن يثني نتنياهو عن تنفيذ خطته في غزة طالما أن هناك دعما أمريكيا غير محدود وضعفا دوليا غير محدود أيضا.

إن قرار المجلس الأمني المصغر (الكابينت) في إسرائيل باحتلال غزة يضع المجتمع الدولي أمام امتحان صعب وتحديات حقيقية، تحتم عليه تغيير الخطاب تجاه إسرائيل والانتقال من التنديد إلى التنفيذ باتخاذ مواقف حاسمة وصارمة تجاه نتنياهو الذي تجاهل الرفض الداخلي والخارجي، ويهم بإصدار أوامره للجيش الإسرائيلي لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه بحذافيره رغم المخاطر والمحاذير التي يتحدث عنها معارضوه وعلى رأسهم رئيس الأركان إيال زامير الذي قال إن احتلال غزة مغامرة غير محسوبة ومحفوفة بالمخاطر، وإن الاحتلال الكامل سيكون ثمنه الفشل الكامل والخسائر الثقيلة في صفوف الجيش والتضحية بالرهائن لأن التصعيد العسكري من جانب إسرائيل سيقابله تصعيد من قبل حماس، وعندها سيتحوّل النصر المحتوم الذي يحلم به نتنياهو إلى نكسة غير مسبوقة قد تُدخل إسرائيل في دوامة حرب استنزاف طويلة الأمد.

يتصرف نتنياهو بعقلية دركي العالم الذي يدير الحرب كما يحلو له، يعلنها ويوقفها كما شاء ومتى شاء وكيفما شاء غير آبه بالمجتمع الدولي الذي يتهمه بالوقوع في أحابيل حماس التي تروِّج –حسب زعمه- لصورة كاذبة عن الوضع في غزة وتفتعل مجاعة جماعية من أجل استعطاف العالم والتأثير على إسرائيل وتؤلّب الرأي العام العالمي ضدها.

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن في ظل التصعيد الإسرائيلي الأخير هو: لماذا ينجح المجتمع الدولي في تأديب روسيا وإيران ويعجز في المقابل عن تأديب نتنياهو وحمله على الانصياع للإرادة الدولية؟ الجواب على هذا السؤال نجده فيما قاله عبد الوهاب المسيري رحمه الله، الذي قدَّم تحليلا موضوعيا وواقعيا ودقيقا للشخصية اليهودية وللسلطة في إسرائيل ومن جملة ما قاله في هذا الصدد: “إن مقومات الحياة بالنسبة لإسرائيل ليست من داخلها بل من خارجها، هناك مقومان أساسيان: الدعم الأمريكي بلا حدود والغياب العربي بلا حدود أيضا، هذان العنصران هما اللذان يضمنان بقاء إسرائيل واستمرارها”. لقد صدق المسيري رحمه الله فيما ذهب إليه، ولكن سياسة الأمر الواقع التي يفرضها الكيان الصهيوني حيال غزة وصمت المجتمع الدولي، تجعلنا نلتمس بعض الأعذار للموقف العربي، الذي اتهم على مدى سنوات بتضييع القضية الفلسطينية وتمييعها وبيعها.

لا شك أن للموقف العربي جزءا كبيرا من المسؤولية تجاه فلسطين، ولكن مستجدات الحرب الإسرائيلية على غزة والضفة وتهديد نتنياهو ومجلسه الأمني المصغر بمحو غزة وسحق حماس وتهجير سكانها كشفت -بما لا يدع مجالا للشك- بأن المجتمع الدولي يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية حيال غزة والضفة وفلسطين، فنتنياهو لا يعبأ بالموقف الدولي ويهوِّن من شأنه تماما كما يفعل مع الموقف العربي، فأوروبا كلها وبكلكلها عاجزة عن مواجهة نتنياهو وحمله على الانصياع لقرارات المجلس الأوروبي الذي يدعم حل الدولتين ويرفض احتلال غزة رغم إجماعه على زحزحة حماس عن الحكم وتسليم إدارة القطاع إلى جهة أخرى “معتدلة”، بحسب التعبير الوارد في بيانات المجلس الأوروبي.

يتلاعب نتنياهو ومجلسه الأمني المصغر بالمصطلحات، ويضحك على أذقان المجتمع الدولي بزعمه أن الغرض من الاستيلاء الكامل على غزة هو تضييق الخناق على حماس لحملها على الاستسلام ووضع السلاح، فهو احتلال يراد منه –حسب تعبير أعضاء الكابينت– “تحرير” غزة من هيمنة حماس وإعادة بنائها من جديد وإعادة الحياة إليها في ظل سلطة حاكمة بديلة معتدلة ومسالمة تعمل لرفاه غزة ولا تفكر في إيذاء جارتها إسرائيل.

لا نعلم طبيعة هذه السلطة التي تريدها إسرائيل في غزة ولا شكلها، ولكن الراجح في اعتقادنا أن تكون مشكَّلة من الجماعات المسترزقة والمرتزقة التي تسبِّح بحمد إسرائيل ولا ترى مستقبلا زاهرا للقطاع إلا في الحضن الصهيوني الذي يمنِّي الغزيين بالمنّ والسلوى ويرفع عنهم غبن السنين وينسيهم سنوات الجمر والقهر التي عانوها في ظل حكم حماس.

إن نتنياهو وفريقه الأمني لا يفكر فقط في احتلال غزة بل يفكر في توسيع حدود إسرائيل وتنفيذ الوعد التوراتي: “حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل”.

إن ملامح هذه الخطة التوسعية بدأت في الظهور فما قاله اليميني المتطرف “بتسلئيل سموتريتش” يصب في هذا الاتجاه إذ قال: “إن الحرب في غزة ستنتهي بإنهاء حكم حماس وإخراجها من غزة وقتل قادتها ونفي من تبقى منهم ممن يشكّلون خطرا من الدرجة الثانية خارج حدودها”.

وأضاف سموتريتش: “سنُنهي هذه الحرب وقد فكَّكنا سوريا وأنزلنا ضربة قاسية بحزب الله وستكون إيران مجردة من أي سلاح نووي، سنُنهي الحرب وقد نظفنا غزة كليا من حماس وسيكون آلاف الغزيين وأكثر في طريقهم إلى الخارج إلى دول أخرى، سنُنهي الحرب بعودة المخطوفين الأحياء والموتى إلى إسرائيل وستكون إسرائيل دولة قوية وأكثر ازدهارا، هذه ليست أهداف الحكومة بل أهداف تحظى بإجماع شعب يهودي يتطلع إلى الحياة ونهاية حرب فُرضت عليه”.

إن سؤالنا لسموتريتش والذي يسأله كل عارف بالسياسة الصهيونية هو: هل تستطيع إسرائيل تنفيذ ما توعدت به فيما عجزت عن تحقيقه في اثنين وعشرين شهرا من العدوان؟ هل كانت في مرحلة إحماء أم كانت تدَّخر جهدها وقوتها لهذا اليوم؟

نصيحتي للغزيين أن يصبروا ويصابروا ويرابطوا ويحتسبوا وأن لا يتبرموا بالقدر أو يستبطئوا النصر، فإن بعد العسر يسرا وإنه لا يتسع الأمر إلا إذا ضاق، إن بعد المحنة منحة وإن للصبر لذة لا يجد حلاوتها إلا من وثق في نصر الله ينصر من يشاء ويُعز من يشاء ويذل من يشاء، يقول الله تعالى: “ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون”. (الصافات 171/172).
صبرا آل غزة وعذرا فما تخلينا عنكم بإرادتنا وما باليد حيلة ولا إلى دعمكم وسيلة غير الدعاء لكم بالنصر على عدوكم وعدونا وعدو الإنسانية جمعاء. إن الضياء لا يأتي إلا بعد ليل مدلهم فطوبى لمن رضي بالقضاء وصبر عند البلاء وتصرَّف عند الملمّات والأزمات مقتديا بقول الشاعر قطري بن الفجاءة مخاطبا نفسه الخائرة الحائرة:

أقول لها وقد طارت شعاعا من الأبطال ويحك لن تراعي
فإنك لو سألت بقاء يوم على الأجل الذي لك لم تطاعي.

الشروق الجزائرية