نشرت صحيفة "
واشنطن بوست" الأمريكية، تقريرا، أعدته كاثرين هورليد، وحافظ هارون، وكارولين فان هورتين، تحت عنوان: "مخدرات، دم وإرهاب" من منطقة الصالحة في أم درمان، جاء فيه أنّ: "العائلات جمعت ما لديها من مال للرحيل في قافلة على أمل النجاة من معركة السيطرة على آخر جزء من العاصمة
السودانية أواخر نيسان/ أبريل".
وبحسب التقرير الذي ترجمته "عربي21" فإنّه: "ما إن انطلقت القافلة حتى أطلق مسلّحون شبه عسكريين النار على إطارات الشاحنات عند حاجز طريق، حسبما قال الناجون. واستذكروا أن الرجال أُجبروا على الخروج، ثم هدّد المقاتلون بإشعال النار في الشاحنات بما فيها النساء والأطفال".
وقالت أمل إسماعيل، البالغة من العمر 30 عاما، وهي تحتضن ابنها، الصبي ذو العشرة أعوام بعينين واسعتين: "كان الجميع يبكون ويصرخون، كنا نرى أزواجنا وإخوتنا يتعرضون للضرب في الخارج".
وتابع التقرير: "بعد قليل بدأ القتل، حيث تم ذبح 31 شخصا على الأقل في 27 نيسان/ أبريل في منطقة الصالحة، بمدينة أم درمان الواقعة على الجانب الأخر من نهر النيل ومقابل الخرطوم". وقامت الصحيفة بجمع شهادات من الناجين في المجزرة ولقطات فيديو وكذا أدلة جمعت من مكان المذبحة.
وفي السياق نفسه، قامت بإعادة بناء تسلسل الأحداث التي حدثت في ذلك اليوم، موثقة انهيار الإنضباط داخل قوات
الدعم السريع. وقال الناجون إنّ: "المقاتلين الذين هاجموهم يتعاطون المخدرات، وربّما كانوا تحت أثرها في اليوم الذي قاموا بمهاجمتهم، وهو ما زاد من وحشيتهم".
واندلعت الحرب في السودان في نيسان/ أبريل 2023، بعد خلاف على السلطة بين الجيش وزعيم الدعم السريع، وأدّت الحرب لمقتل 150,000 شخصا وتشريد 12 مليون وانتشرت الأمراض والمجاعات في مخيمات الناجين.
"في الأيام الأولى للحرب لم يكن المدنيون إلا في النادر هدفا رئيسيا ولكن مع تجنيد قوات الدعم السريع لمقاتلين جدد، باتت عمليات القتل الجماعي للمدنيين أكثر شيوعا. وارتكبت فظائع مماثلة لتلك التي وقعت في الصالحة في جميع أنحاء البلاد، ونظرا لعدم قدرة الصحافيين على العمل داخل البلاد، لا تزال قصص العديد من الضحايا غير معروفة وموثقة" أورد التقرير نفسه.
وأردف: "جلب المقاتلون غير النظاميين معهم عادة تعاطي وبيع المخدرات التي كانت متغيرا جديدا وخطيرا في حرب ينعدم فيها القانون أصلا".
واسترسل: "في أيار/ مايو، زار صحافيون مصنعا مؤقتا استعاده الجيش، حيث قالت السلطات إن قوات الدعم السريع كانت تنتج الكبتاغون، وهو منشط صناعي يحتوي على مادة الأمفيتامين. وقال جمعة محمد إسماعيل، وهو محام من الصالحة "كنا نعرف قوات الدعم السريع في حينا والذين كانوا هنا مدة عامين ولم يتعرضوا للناس".
ولم ترد الدعم السريع على طلب للتعليق، لكن ما حدث في الصالحة يكشف أن القيادة فشلت في السيطرة على مقاتليها. وكانت الصالحة أول منطقة سيطرت عليها قوات الدعم السريع في بداية الحرب، وسقطت بدون قتال مما جنب السكان الدمار الذي حل بأحياء أخرى في العاصمة الخرطوم. ما جنّب السكان الدمار الشامل الذي حل بأجزاء أخرى من العاصمة.
وقبل أكثر من عام تقريبا، بدأ الجيش باستعادة الخرطوم شيئا فشيئا، ومع تسارع تقدمه في الربيع، أُغلقت الطرق والأسواق القريبة من الصالحة.
وقال سائق الشاحنة التي كانت جزءا من القافلة، جلال سراج، 50 عاما: "لم يكن هناك طعام ولا ماء أو دواء". وبدأ مقاتلون مختلفون جاءوا من جنوب السودان بالتدفق على الحي و"كان الرجال الجدد يبيعون المخدرات في كل مكان، في الدكاكين وفي الأسواق".
ومضى
التقرير بالقول: "كانوا يشمون المسحوق، حتى الأطفال البالغ عمرهم 13 عاما، ثم يتحرشون في النساء"، حسبما قالت رحاب إسماعيل، الأخت الوسطى لجمعة البالغ عمرها، 25 عاما. وقالت رقية خريف، أم لأربعة أطفال: "شاهدتهم يطلقون النار على ولد كان يقف أمام بوابة بيته وبدون سبب".
وفي نهاية أيار/ مايو، اصطحبت دورية شرطة مراسلي صحيفة "واشنطن بوست" إلى مبنى سكني مهجور نصف مكتمل في حي خرطوم بحري، على بعد 15 ميلا شمال شرق صالحة، على الضفة الأخرى من النيل. وكانت عبوات مسحوق أبيض كتب عليها "مكمل غذائي للحيوانات" و"صنع في سوريا" متنتاثرة حول المبنى. ففي السنوات الأخيرة من حكم السوري المخلوع بشار الأسد، أصبحت تلك الدولة رائدة في إنتاج الكبتاغون.
وضعت خلاطات ومكبس حبوب صناعي هناك، وحطمت صناديق محملة بمعدات جديدة. وقالت الشرطة إن المصنع كان ينتج 100,000 حبة كبتاغون في الساعة. وقال جمعة إنه أجبر على الفرار سريعا إلى داخل بيته الحار من الجنود الثملين وتحت تأثير المخدرات طوال الوقت، حيث كانوا يطلقون النيران من بنادقهم في كل الإتجاهات. مضيفا: "الوضع خطير في الخارج وحار في الداخل وبائس في كل مكان".
وقال سراج علي، 53 عاما إنّ: "عمه حاول التواصل مع أحد قادة الدعم السريع وشرح المعاناة التي يعيشها السكان. وعرض عليهم القائد حراسا، لكن عمه قال إنه لن يكون هناك ما يكفي لحماية كل أسرة". وقالت أمل، شقيقة جمعة الكبرى، إنّ: "العائلات دفعت للقائد 1,200 دولارا مقابل الإذن بالمغادرة".
واتصل عم علي بالجيش للتفاوض بشأن عبور خطوط المواجهة. وقال الناجون إن عائلة إسماعيل تجمعت قبل الفجر بقليل مع الأصدقاء والجيران، وكان عددهم يتراوح بين 250 و300 شخصا. وتم تحميل النساء والأطفال في داخل شاحنتين، تستخدمان عادة لنقل الماشية، وكان الرجال على الظهر للحماية. ورافقتهم سيارتان تابعتان لقوات الدعم السريع، واحدة في المقدمة والأخرى في الخلف.
وبعد 500 ياردة فقط، وصلوا إلى نقطة تفتيش تابعة لقوات الدعم السريع. وقالت شقيقتا إسماعيل إن الرجال هناك كانوا يتصرفون بشكل غريب، ويبدو أنهم كانوا تحت تأثير المخدرات. فيما أوردت النساء أن الرجال في القافلة أُجبروا على خلع قمصانهم، ثم تعرضوا للضرب.
ويظهر مقطع فيديو، حددته صحيفة "واشنطن بوست" لما حدث عند حاجز التفتيش، مجموعة من الرجال المرعوبين محاطين بمقاتلين ساخرين. ويظهر في الفيديو مقاتل وهو يقول لرفاقه: "لا تضربهم، اقتلهم ولا تتهاون، اقتل واقتل".
وحددت الشقيقتان الشخص بقميص أزرق بأنه شقيقهما محمد، 28 عاما والذي كان يملك بقالة. وقالتا إنه قتل في ذلك اليوم إلى جانب شقيقهما الأصغر آدم، 20 عاما. ثم فصل المقاتلون الرجال عن النساء واقتيدوا إلى مبان مختلفة، حسبما ذكر الناجون. وأبلغ شهود لاحقا سراج بتعرض اثنتين من شقيقاته للضرب حتى الموت. وقال إنه اقتيد إلى سجن تابعٍ لقوات الدعم السريع ولم يعثر على جثتيهما.
وقال علي إنه اقتيد مع الرجال إلى مبنى آخر قريب واحتجز مع ستة آخرين. وأضاف أن خاطفيهم أطلقوا النار على أحد الرجال، يوسف حسن، فأردوه قتيلا دون سبب. وفي الغرفة المجاورة، قال اثنان من الناجين إن أحد أفراد ميليشيا قوات الدعم السريع ضحك وهو يلقي قنبلة يدوية باتجاههم، لكنها لم تنفجر.
وطالب المقاتلون بتحديد هوية من نظم القافلة. وعندما تعرفوا على علي، أجبره مقاتلو قوات الدعم السريع على الخروج، على حد قوله، وهم يصرخون بأن المجموعة تهرب أسلحة للجيش. وقال علي إنه طمأن المسلحين بجنون بأن العائلات لا تربطها أي صلة بالجيش، وأنهم يحاولون الهرب فقط. وأظهر لهم وثيقة قائد قوات الدعم السريع التي تضمن مرورهم الآمن.
واقتادت الشرطة علي إلى سجن مؤقت على بعد بضع مئات من الأمتار. وترك بقية الأسرى لمصيرهم. وفي غرفة خالية خلف مدرسة ثانوية للبنات، قال علي إنه شاهد من خلال ثقب في الباب عشرات من رجال القافلة وهم يسيرون عبر البوابة. ثم اختفوا عن الأنظار.
وأضاف علي: "فجأة، سمعت إطلاق نار كثيف، ما لا يقل عن 15 بندقيةً إجمالا. عاد الحراس إلى الداخل وقالوا: لقد قتلنا رجالك للتو". ووصف ابن أمل، البالغ من العمر عشرة أعوام، رؤية كومةٍ كبيرة من الجثث بالقرب من المدرسة. وقال إن قوات الدعم السريع أخبرته أنهم قُتلوا في غارة بطائرة مسيرة.
ويظهر مقطع فيديو تحققت منه صحيفة "واشنطن بوست" الرجال وهم يسيرون في الشارع، ويتعرضون للسخرية والضرب من قبل مقاتلي قوات الدعم السريع. ويظهر مقطع فيديو ثانٍ ما لا يقل عن 19 جثة هامدة، من بينها بعض الرجال أنفسهم، متكدسة فوق بعضها البعض. ويمكن سماع أحد مقاتلي قوات الدعم السريع يقول في الفيديو: "إنه 27 أبريل /نيسان 2025. لن ينسى التاريخ أبدا ما قمنا به من عمل".
وفي فيديو آخر، صور رجل ملتحٍ يرتدي زيا عسكريا نفسه أمام الجثث. ويقول بفخر: "أنا من أمرت بقتل هؤلاء الناس. من لديه أي مشكلة فليأت إلي". وقال سراج إنّ: "الرجال كانوا تحت تأثير المخدرات". وأضاف: "السودانيون لا يقتلون هكذا عبثا".
وقال سكان في المنطقة إن 31 شخصا على الأقل لقوا حتفهم في ذلك اليوم. من بينهم: خريج كمبيوتر درس في الهند وميكانيكي متزوج حديثا وأب وابنه البالغ من العمر أربع سنوات. وربما كانت الحصيلة الحقيقية أعلى. وقال شهود عيان إن أسرى آخرين أُخذوا بعيدا، وأن الكثيرين منهم لم يشاهدوا بعد ذلك. ونظرا لعدم توفر الإتصالات في حي الصالحة وتشتت الناجين، فلا أحد يعلم عدد المفقودين، أو كيفية تعقبهم.
وأبرز
التقرير أنّه: "مع تسرب أنباء المذبحة، سارعت قوات الدعم السريع إلى احتواء الموقف. وسعت الجماعة إلى تصوير نفسها كمدافع عن حقوق الإنسان والديمقراطية، تحارب نظاما عسكريا قمعيا".
وقال كبير مستشاري قوات الدعم السريع، الباشا طبيق، في رسالة نشرت ليلة المذبحة على موقع التواصل الاجتماعي "إكس" إنّ: "الجنود في الفيديو ليسوا من قوات الدعم السريع إطلاقا"، وقد حذف المنشور لاحقا. ونشر القائد الذي صور نفسه أمام الجثث مقطع فيديو مدته سبع دقائق تقريبا على تيك توك في اليوم التالي، وأعلن من جديد مسؤوليته.
ويرى وهو يقول في الفيديو في الفيديو، متكئ على أريكة ويرتدي عمامة ونظارة شمسية: "اسمي جار النبي عبد الله. من قال إن هذا القتل ليس من قوات الدعم السريع، أنا من قوات الدعم السريع. رقم شارتي هو 50139136".
وقال إن القافلة كانت تخفي أسلحة صغيرة، لكنه لم يقدم أي دليل. فيما اتهم بعض العائلات بصلة مع أعضاء كتيبة البراء بن مالك، وهي جماعة تابعة للجيش صور أعضاؤها أنفسهم وهم يقطعون رؤوس الأسرى ويمثلون بالجثث. وتساءل في الفيديو: "هل يجوز لكم قطع الرؤوس، ولا يجوز لي القتل؟".
وفي ختام التقرير: "قال ثمانية من البالغين الناجين من القافلة، بالإضافة إلى أصدقاء وأقارب القتلى والمفقودين، إنهم لا تربطهم أي صلة بالميليشيا. وأضافوا أن اتصالهم الوحيد بالجيش كان عندما كانوا يحاولون تنظيم تحركهم عبر خطوط المواجهة".