قضايا وآراء

أحمد الشرع من قلب السلفية الجهادية إلى عقل الدولة

"مشروعه الرئاسي لم يكن مجرد انتقال من التنظيم إلى الحكم، بل انتقال في بنية الوعي"- الأناضول
في عالم تتصارع فيه العقائد والسرديات على شرعية التمثيل والمستقبل، تبقى محاولات إعادة بناء الخطاب الإسلامي الجهادي من داخله، نادرة ولكن حاسمة. وتبرز في هذا السياق تجربة الرئيس السوري أحمد الشرع بوصفها محاولة فريدة لفكّ الاشتباك بين الجهاد والحداثة، من خلال مراجعة نقدية جاءت لا من خارج البنية السلفية الجهادية، بل من أعماقها.

الشرع، الذي تدرّج في بيئة أيديولوجية مشبعة برموز وتقاليد الجهاد السلفي، لم يخض حربا تقليدية على هذه البنية، بل تبنّى مقاربة أكثر تعقيدا وجذرية: زعزعة أسسها من الداخل، وإعادة قراءة مفاهيمها التأسيسية انطلاقا من الحاجة إلى التكيّف مع الشروط السياسية لعصر مغاير. تجربته لا تختزل في السياسة، بل تتجذر في الفكر، وتتغذى من شجاعة التفكيك الذاتي.

من المعسكر إلى الدولة: تحوّل في البنية المفاهيمية.

نشأ أحمد الشرع في بيئة كان الانتماء فيها إلى الجماعات الجهادية السلفية يُعد امتدادا طبيعيا لتدين يعادي الحداثة الغربية، وينظر إلى الحكم المدني كخيانة للدين. غير أن لحظة التحول لم تكن لحظة انشقاق دراماتيكي، بل عملية تراكمية من الشك المعرفي، نمت عبر احتكاكه بالتعقيد الواقعي، وفشل المشاريع الجهادية في تقديم نموذج حكم إنساني مستدام.

في فلسفة التغيير، يُعدّ الموقع الذي يصدر عنه النقد عنصرا حاسما في شرعيته. الشرع لم يكن خصما جاء من ضفة الليبرالية أو العلمانية ليدين السلفية الجهادية، بل كان واحدا منها، وهذا ما يجعل نقده لها أكثر فاعلية

كان التحوّل الأكبر هو قبوله بشرعية الدولة المدنية، لا بوصفها نقيضا للشريعة، بل بوصفها إطارا عقلانيا يتيح إعادة تفسير الشريعة بعيدا عن منطق السيف والعزلة. بهذا، لم يُجرّم الشرع الدولة الحديثة، بل قرأها كفضاء لإمكان جديد: أن يكون الإسلام قوة أخلاقية في المجال العام، لا مشروع عنف شمولي.

الداخل كموقع للمراجعة: الفكر كفعل مقاومة.

في فلسفة التغيير، يُعدّ الموقع الذي يصدر عنه النقد عنصرا حاسما في شرعيته. الشرع لم يكن خصما جاء من ضفة الليبرالية أو العلمانية ليدين السلفية الجهادية، بل كان واحدا منها، وهذا ما يجعل نقده لها أكثر فاعلية من آلاف الطائرات والبيانات السياسية. إنه لم يهاجم الفكرة من الخارج، بل من خلال بنيتها على غرار "الشك الكانتي" الذي لا يرفض العقل بل يُعيد بناءه على أسس جديدة.

بعبارة أدق، أحمد الشرع مارس ما يسميه بول ريكور "الهيرمينوطيقا المضادة"، أي تأويل التأويل: فقد فكّك القراءة السلفية الجهادية للنصوص، لا من خلال نسف المرجعية، بل عبر تأويل مغاير لها من داخل ذات المرجعية. استعاد المفاهيم الإسلامية الكبرى (البيعة، الشورى، الجهاد، الأمة) وأعاد تحميلها بدلالات جديدة، تُقارب الواقع لا تهرب منه.

بين الهيئة والجيش: تحوّل الجهاد في رؤية أحمد الشرع.

من أبرز التحولات المفصلية التي جسّدها مشروع أحمد الشرع هي إعادة تعريف "الجهاد" لا بوصفه فعلا طارئا أو تمردا عنفيا يتجسّد في جماعات متفرقة، بل كمبدأ سيادي منظم يُمارَس ضمن إطار الدولة الحديثة. ففي حين كانت السلفية الجهادية تاريخيا تؤسس مشروعها القتالي على نموذج "العصابة الجهادية"، حيث تنعدم الهرمية المؤسسية ويُقدَّم الولاء العقائدي على الانضباط العسكري، جاء الشرع ليقلب المعادلة: الجهاد لا يكون خارج الدولة، بل داخلها، وضمن مؤسساتها، وأهمها الجيش.

لقد رأى أن استمرار العمل المسلح ضمن جماعات منفصلة، غير خاضعة للشرعية القانونية والسياسية، لا ينتج دولة، بل يعيد إنتاج الفوضى باسم العقيدة. من هنا، أعاد الشرع تأطير الجهاد ضمن مشروع بناء جيش وطني محترف، يخضع للعقيدة الوطنية لا الأيديولوجيا الدينية المغلقة، ويمارس القوة لا من منطق الفتوى، بل من منطق السيادة.

بهذا التحول، يصبح الجهاد في فكر الشرع وظيفة سيادية، وليس مشروع تمكين عقائدي. ويُستعاد بذلك البُعد الأخلاقي للعنف المشروع ضمن نظرية الدولة الحديثة، حيث تُحتكر أدوات العنف المشروع داخل مؤسسة الدولة فقط، ويتم إخضاعها للرقابة والمساءلة، لا للبيعة والانتماء الفئوي.

بين الشرعية والسلطة: قطيعة مع نموذج الدولة الجهادية

ما أدركه الشرع مبكرا هو أن مشروع "الدولة الجهادية" محكوم عليه بالانهيار، ليس بفعل الضغط الخارجي فقط، بل بسبب عجزه البنيوي عن الانسجام مع متطلبات العصر: التنوع، والمواطنة، والقانون، والاقتصاد، والعلاقات الدولية. وقد رأى في التحالفات التكتيكية بين التنظيمات الجهادية وبعض القوى الغربية تناقضا قاتلا يُفرغ الخطاب الجهادي من صدقيته.

من هنا، فإن مشروعه الرئاسي لم يكن مجرد انتقال من التنظيم إلى الحكم، بل انتقال في بنية الوعي: من حكم يرتكز على الانغلاق، إلى نموذج سياسي منفتح على الغرب، متصالح مع المؤسسات، وقادر على استيعاب الآخر دون نزع هويته.

الفكرة التي تهزم البندقية
تجربة الرئيس أحمد الشرع، بوصفها تعبيرا عن مراجعة عميقة من داخل البنية الجهادية، تفتح أفقا جديدا في العلاقة بين الإسلام والدولة، بين النص والواقع، بين العقيدة والسياسة

لا يخفى أن تجربة الشرع حصدت عداء شرسا من أوساط الجهاديين، لا لأنه خانهم سياسيا، بل لأنه هدّدهم فكريا. فالنظام الجهادي يستمد قوته من الثنائية الصارمة: نحن مقابل العالم، الإسلام مقابل الكفر، القتال مقابل الركون، أما أحمد الشرع، فحطّم هذه الثنائية، وطرح نموذجا ثالثا لا يقوم على العنف بل على التأويل، لا يستدعي السلاح بل العقل.

القوة الناعمة التي يمثلها هذا النموذج لا تُقاس في ساحات القتال، بل في قدرتها على إنتاج خطاب يحرّر الدين من وهْم الشعارات، ويحرّر العقل المسلم من سجن القداسة المطلقة لتأويلات بشرية.

تجربة الرئيس أحمد الشرع، بوصفها تعبيرا عن مراجعة عميقة من داخل البنية الجهادية، تفتح أفقا جديدا في العلاقة بين الإسلام والدولة، بين النص والواقع، بين العقيدة والسياسة. إنها دعوة فلسفية إلى تجاوز النموذج الجهادي لا عبر العداء له، بل عبر تجاوزه نقديا إلى نموذج إسلامي عقلاني، أخلاقي، ومدني.

وبينما تظل الطائرات قادرة على هزيمة الجنود، فإن الشرع وأمثاله قادرون على هزيمة الأفكار، لا بالدم، بل بالمعنى، لا بالصراخ، بل بإعادة البناء الهادئ لعلاقة المسلم مع ذاته، ومع العالم.