مدونات

طمعا بالنفوذ.. أوروبا تمنح ترامب الوصاية على اقتصادها

"بروكسل تحاول إعادة تشكيل وصياغة تحالفها غير المتوازن مع أمريكا عبر سلاح الغاز"- جيتي
يعتزم الاتحاد الأوروبي فرض قيود تدريجية جديدة على الغاز الروسي بجميع أنواعه. هكذا تظهر أحدث التقارير الاقتصادية التي تشير إلى أن القيود سوف تشمل كذلك المعاملات الفورية التي تشكّل نحو ثلث الحجم التعاملات الحالية بين أطراف من القارة العجوز (أوروبا) وموسكو. من خلال تلك القيود، تطمح بروكسل إلى التخلص من الغاز الروسي بشكل تام في غضون 3 سنوات، وهو رقم مهم جدا وله دلالات سياسية إلا أنّه صعب التحقق إن لم نقل شبه مستحيل.

تراهن المفوضية الأوروبية على جملة من المعطيات، وتبني الأمر على توقعات ضمن دراسات وإحصاءات تشير إلى ظهور كميات جديدة من الغاز الطبيعي المسال الأمريكي والقطري بحلول أواخر عام 2027.

في هذا التاريخ يكون الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد اقترب من دخول السنة الرابعة والأخيرة من ولايته، في حينه قد تسود حالة واسعة من عدم اليقين، وربّما تخفّف من صرامة نهج الإدارة الأمريكية الحالية، وتدفع كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي إلى البحث عن موارد جديدة سياسية واقتصادية واجتماعية لتعزيز برنامج كل منهما الانتخابي.

هذا التوجه الأوروبي المستجد، والذي يتجاوز الإجراءات السابقة للحد من استخدام الغاز الروسي ليشمل دولا أوروبية بقيت تستفيد من ذاك الغاز عبر أنابيب السيل البلقاني والعقود الفورية وحتى قنوات ملتوية، يحمل الكثير من المخاطر الجدية على الاقتصاد الأوروبي

وبالتالي، فإن بروكسل تسعى من خلال هذه السياسة إلى احتواء النهج الاندفاعي لترامب، والحدّ من الضربات المتوالية التي يسددها إلى النفوذ السياسي لأركان أوروبا (ألمانيا، فرنسا، إيطاليا..)، حيث تحاول مخاطبته باللغة التي يفضلها، وهي لغة "الصفقة" التي تدرّ المنافع السياسية والاقتصادية المستدامة، وفي الوقت نفسه تمنح الاتحاد فرصة لشراء الوقت، وكذلك من أجل تلافي أيّ مواجهة سياسية مباشرة مع واشنطن في ظل اللامبالاة الهائلة التي تظهرها الأخيرة إزاء هواجس حلفائها في القارة العجوز.

تنتهج إدارة ترامب منذ دخولها البيت الأبيض نهجا غير تقليدي، يرتكز على إعادة صياغة وتشكيل شبكة تحالفتها حسبما تقتضيه المصالح الاقتصادية والتجارية على قاعدة الشعار الذي رفعه الرئيس ترامب إبان حملته الانتخابية "أمريكا أولا".. وهذا ما دفعها إلى استخدام أدوات الضغط الأقصى على أوكرانيا لحملها على القبول بتسوية الصراع حسب المعايير الروسية، مع إغفال أيّ دور لبروكسل على طاولة الوساطة والمفاوضات.

نجحت السياسة الأمريكية في جلب اتفاق مع كييف بشأن استثمار المعادن في باطن الأرض، وحسب الشروط الأمريكية بما يعود عليها بمنافع مالية واقتصادية هائلة على المدى البعيد، في موازاة إطلاق حوار مع روسيا للتفاهم معها، ليس حول الصراع في أوكرانيا فحسب، بل كذلك بما يؤسّس لتعاون مستدام يفيد كلا الطرفين من خلال استغلال الفرص الاستثمارية والقدرات الجيوسياسية المشتركة.

بيد أنّ هذا التوجه الأوروبي المستجد، والذي يتجاوز الإجراءات السابقة للحد من استخدام الغاز الروسي ليشمل دولا أوروبية بقيت تستفيد من ذاك الغاز عبر أنابيب السيل البلقاني والعقود الفورية وحتى قنوات ملتوية، يحمل الكثير من المخاطر الجدية على الاقتصاد الأوروبي المترنح أساسا.

تمتلك روسيا وكذلك الحال بالنسبة إلى الصين؛ الكثير من أوراق القوة، وهذا ما جعل الأولى قادرة على مواجهة أمريكا خلال عهد الرئيس الأسبق جو بايدن، ومنح الثانية القدرة على إحداث التوازن الكابح لجموح ترامب في قراراته وإجراءاته ضدها، فيما تبدو أوروبا الطرف الأضعف بالمقارنة مع الأطراف الثلاثة

ذلك أنّ بروكسل تحاول إعادة تشكيل وصياغة تحالفها غير المتوازن مع أمريكا عبر سلاح الغاز، وتروم وضع ناصية اقتصادها في يد ترامب من خلال إغرائه بتحويل السوق الأوروبية كلها إلى مستورد للغاز الأمريكي، رغم الفجوة الهائلة في تكاليفه بالمقارنة مع نظيره الروسي، وما لذلك من تأثير سلبي يعزز من حجم التضخم وارتفاع الأسعار، المهم أن لا تتخلى واشنطن عن أوروبا.

وحسب التقارير، فإن النظرة التي تحكم القيادات الأوروبية إزاء هذا الخيار هي "مخاطر سياسية" أسوأ بكثير من تلك التي تحيط باستخدام الغاز الأمريكي، حيث تعتبر أنّ الأثمان الاقتصادية الباهظة تبقى أخف وطأة من انفراط عقد التحالف الأوروبي- الأمريكي، فتصبح القارة العجوز وقت ذاك عارية وبعيدة عن أيّ تحالف سياسي.. وتفقد الكثير من بريقها وأوراق قوتها.

ومع ذلك، يبقى هذا الخيار شديد الخطورة على بروكسل بالنظر إلى ما تعانيه الاقتصادات الأوروبية، في طليعتها ألمانيا التي تعد قاطرة أوروبا الاقتصادية، والتي تكابد ركودا اقتصاديا لم تشهد مثيلا له منذ عقود. وهذا الركود كان محفزا لانهيار الائتلاف السياسي الحاكم وظهور بوادر عدم استقرار سياسي وتصاعد مناخ الاستقطاب على وقع ارتفاع شعبية أحزاب وقوى اليمين المتطرف.

والحال في بقية الدول الأوروبية ليس أفضل، حيث تتعرض الكثير منها إلى أزمات اقتصادية تنعكس اختلالا في المناخ السياسي. وعليه، فإنّ توجه بروكسل طواعية إلى منح واشنطن وصاية اقتصادية عليها قد يفضي إلى انفجار الأزمات الاقتصادية خلال السنوات الثلاث المقبلة، مع ما لذلك من آثار سلبية على الاستقرار ربما تطيح بالهيكل السياسي التقليدي الحاكم، ولا سيما أنّ التطورات السياسية كشفت ضعف مناعته.

في المقابل تمتلك روسيا وكذلك الحال بالنسبة إلى الصين؛ الكثير من أوراق القوة، وهذا ما جعل الأولى قادرة على مواجهة أمريكا خلال عهد الرئيس الأسبق جو بايدن، ومنح الثانية القدرة على إحداث التوازن الكابح لجموح ترامب في قراراته وإجراءاته ضدها، فيما تبدو أوروبا الطرف الأضعف بالمقارنة مع الأطراف الثلاثة المذكورة. ولذلك يمضي قادتها في خيار شديد الخطورة وأقرب إلى طابع شبه انتحاري، في موازاة اجتماعات مكثفة ودراسات غير تقليدية تروم البحث عن فرص جيوسياسية جديدة وغير تقليدية.