هذا هو المقال الرابع،
وهو الأخير من سلسلة مقالات، حاولت من خلالها نقاش أو الإجابة على سؤال: كيف
استخدمت الدولة
المصرية، تاريخيا وإلى الآن في عهد السيسي، التقنيات الحداثية في إيجاد ونفي
أجساد وأسماء المصريين من أجل بقائها وهيمنتها؟
حول اغتراب واستلاب المواطن
في
النُظم السُلطوية، تتشكّل علاقة السُلطة بمواطنيها على التضاد من المفترض أو
المعقود عليه دستوريا؛ إذ تتبدّل أدوار كل منهما، حيث تُسخر السُلطوية السياسية
أجساد مواطنيها لخدمتها في البقاء والهيمنة والتوسّع، وغير ذلك من طموحات سُلطوية.
ومن هُنا، يتأسس ما سمَّاه أستاذ علم الاجتماع السوري حليم بركات بـ"الاغتراب السياسي للمواطنين"،
حيث يُصبح الشعب خادما للسلطة، بدلا من أن تكون السلطة هي خادمة الشعب، وتسعى
الدولة لإيجاد مواطنين "أجسادا" تحكمهم، بدلا من أن يسعى المواطنون في تأسيس نظام حكم يتوافقون عليه لإدارة حياتهم.
في هذه
الحالة، وبعد كلّ ممارسات القمع التي ذكرناها سالفا، يتمكّن الاغتراب وممارساته
الفكرية واليومية من الإنسان الذي تعرض للقمع، فلا يُصيبه الاغتراب السياسي فحسب،
نظرا لنزع حقه السياسي منه، بل يصل الحال به إلى الاغتراب الوجودي، وهو الاغتراب
الذي يرى الإنسان فيه أن وجوده الحياتي، ذاتيا وجسديا، أصبح مغتربا، تائها، غير
مرغوب فيه، حيث تجتمع على الإنسان في المنفى، عوامل أُخرى تساعده في نفيّ ذاته عن
الوجود، مثل عدم اندماجه أو انتمائه للمجتمعات الجديدة التي وصل إليها، أو عدم
توفر الأمان المادي والقانوني له، الذي يُبقيه اسما وجسدا معترفا به من السُلطة
بشكلها المجرّد والعام، هذا فضلا عن استمرار سُلطوية بلاده في ملاحقته. هنا يقتحم
الإنسان مفهوم الاستلاب، وهو مفهوم طرحه وطوّره واشتبك معه بضعة مفكرين وفلاسفة،
من زوايا اقتصادية وثقافية واجتماعية، بدءا بهيغل مرورا بماركس ووصولا إلى الفرنسي
لويس ألتوسير.
يتمكّن الاغتراب وممارساته الفكرية واليومية من الإنسان الذي تعرض للقمع، فلا يُصيبه الاغتراب السياسي فحسب، نظرا لنزع حقه السياسي منه، بل يصل الحال به إلى الاغتراب الوجودي، وهو الاغتراب الذي يرى الإنسان فيه أن وجوده الحياتي، ذاتيا وجسديا، أصبح مغتربا، تائها، غير مرغوب فيه، حيث تجتمع على الإنسان في المنفى، عوامل أُخرى تساعده في نفيّ ذاته عن الوجود.
هنا
الاستلاب، يعني أن ذاتية الإنسان استُلبتْ منه عنوة، بسبب تعرّضه لممارسات قمعية من
سُلطويات الفكر والسياسة والمجتمع، ولأن المنفى هنا ليس ابعتادا عن الوطن فحسب، بل هو ابتعاد عن الذات أيضا، كما يقول المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، إذ يُصبح المنفى "هوية قسرية لا تنجسر في الكائن البشري
وموطنه الأصليّ بين النفس ووطنها الحقيقي، ولا يمكن التغلب على الحزن الناجم عن
هذا الانقطاع".
ما العمل؟
في ظل
آلة القمع المستمرة، التي تعمل بكل جدِّيّة في نزع الحقوق والحريات، جاء دور
العمل الحقوقي، إذ شهد تطورا وانتشارا سريعا في سنوات ما بعد وصول السيسي إلى حكم
مصر في أيار/ مايو 2014، هذا الانتشار عكسَ حجم
انتهاكات الجهاز الأمني في مصر
لعموم المواطنين والفئات السياسية المعارضة له، داخل مصر وخارجها. وفّر العمل
الحقوقي مساحة كبيرة تضم التيارات الأيديولوجية كافة، التي رفضت أن تجتمع يوما ما
على الطاولة السياسيّة، فتجد منظمات حقوقية كثيرة، تجمع بين أطياف السياسية
المتباينة والمتداخلة، فضلا عن وجود الصحفيين والباحثين والحقوقيين والناشطين
المستقلّين، يعملون من أجل توثيق ورصد الانتهاكات في تقارير ودراسات دوريّة.
يُعدُّ
العمل الحقوقي إنجازا كبيرا، من حيث رصد وتوثيق الانتهاكات كافة التي تحدث
للمصريين، لا سيّما السجناء السياسيين، من وفيّات إثر التعذيب داخل مقرّات
الاحتجاز، والتصفيات الجسدية، والانتهاكات الجسدية للسجينات، وغير ذلك. كما احتلَّ
مكانة التقدير والامتياز نظرا للظروف الأمنية الصعبة الذي يعمل في ظلّها، ولِصعوبة
الحصول على الأرقام والمعلومات التي تفيد التسجيل الصحيح للانتهاكات. كل هذا العمل
واستمراره، ما زال يشكّل ضغطا على السُلطوية في مصر، كي تخفف قمعها على المواطنين،
وتعطي مجالا للانفتاح السياسي، وحرية التعبير، وإعطاء الحقوق للمواطن المصري،
وتلتزم بدورها وفقا للدستور المصري، بدلا من تطويعها القوانين من خلال إقرار
تشريعات مجحفة بحق المصريين على جميع المستويات، مثل قانون الإجراءات الجنائية،
وتمديد فترة الرئيس من 4 إلى 6 سنوات، كما إعطائه مدة ثالثة للحكم، وانتهاكات
أُخرى.
من سياق
حقوقي آخر، وفي المنفى، تعمل المؤسسات الحقوقية والدولية من خلال البرامج وعقد
الجلسات الدورية ومساعدة المنفيين خارج مصر، في بلدان مُختلفة، وهذا من خلال
التعرّف على تجاربهم المُختلفة مع المؤسسات والمُجتمعات والمؤسسات المصرية خارج
مصر. ودائما، يوضّح المنفيّون سواء كُرها أو طوعا، وهم يعملون في مجالات مختلفة
منها الصحافة والبحث وحقوق الإنسان، مُعاناتهم في التعامل مع البلاد الجديدة التي
وصلوا إليها، سواء من الناحية النفسية أو القانونية، حيث تُقابلهم الإشكاليات
الأمنية مع السفارات والقنصليات المصرية، ما يترتب عليه صعوبات في تقنين وضعهم
القانوني في المنفى، هذا بجانب إشكاليات الاندماج والحصول على فرص للعمل، وغير
ذلك، ما يضع هؤلاء المنفيين تحت ضغط نفسي شديد، سبب لهم مع الوقت اغترابا ذاتيا عن
محيطهم وعن أنفسهم.