وصل مظلوم عبدي إلى دمشق.. لم يصل.. بل من المتوقع أن يصل في الساعات القليلة المقبلة.. شاشات تلفزيون تستضيف «محاورين» من طرفي الاستقطاب لتحليل المشهد السياسي على مرمى أيام من «انتهاء المهلة»، فيتوعد أنصار سلطة دمشق بشن حرب ماحقة على
قسد ما لم تنفذ عملية الاندماج في وزارة الدفاع! كأننا نشاهد فيلم رعب وإثارة، أو نقرأ رواية ماركيز الشهيرة «قصة موت معلن» التي يعرف القارئ مصير بطلها سانتياغو نصار منذ الصفحة الأولى منها.
كيف وصلت الأمور إلى هنا؟
حين نشر خبر اجتماع دمشق بين أحمد
الشرع ومظلوم عبدي اللذين وقعا اتفاقاً في العاشر من آذار بين سلطة دمشق وقوات
سوريا الديمقراطية، كانت سوريا تعيش حالة صدمة مهولة من أخبار المجازر المرتكبة في مدن الساحل وقراه بحق مدنيين علويين بسبب انتمائهم الطائفي هذا، فأنعش الاتفاق شيئاً من الأمل بألا تنزلق البلاد إلى حروب جديدة تأتي على ما تبقى من الاجتماع السوري.
ثم بدأت الضغوط التركية فتكررت تصريحات وزير الخارجية هاكان فيدان، بصورة خاصة، بشأن وجوب تفكيك قوات سوريا الديمقراطية ودمجها في وزارة الدفاع، بالتوازي مع عملية تفكيك حزب العمال الكردستاني في تركيا عبر مفاوضات. وتتالت الأشهر دون تحقيق أي تقدم في تنفيذ بنود الاتفاق. ويختزل أنصار السلطة الاتفاق، في تطابق مع الجانب التركي، في جانبه العسكري، متجاهلين الجوانب الدستورية المتعلقة بضمان حقوق المكونات، والحوكمية المتعلقة بوجوب قيام حكومة تمثيلية تشمل الجميع. وهذه، على أي حال، مطالب أممية وأمريكية في الوقت نفسه، لا مفر من التزام دمشق بتنفيذها إذا أرادت استمرار الاحتضان العربي والدولي.
بهذه الطريقة تمت شيطنة قسد وتحميلها وحدها مسؤولية عدم تنفيذ اتفاق آذار، والأخطر هو توعدها بالإخضاع ما لم تخضع طوعاً. مع أن اتفاق آذار الذي نص على وجوب تنفيذ بنوده من قبل الطرفين قبل نهاية العام الحالي، لم يتضمن أي تهديد بخيارات عسكرية في حال عدم التنفيذ. لكن وسائل الإعلام هي التي نفخت في النار وحولت نهاية العام موعداً لاشتعال الحرب. فقد كان الاتفاق نتيجة مفاوضات أدت إلى توافق الطرفين طوعاً على مجموعة من المبادئ ماطل كلاهما في تنفيذها.
وفي غضون ذلك جرت أحداث أخرى أظهرت مدى صعوبة التقدم في تنفيذه. ففي شهر نيسان تم افتعال مشكلة أدت إلى انتهاكات جسيمة في جرمانا وصحنايا استهدف فيها مدنيون دروز، وفي تموز قامت قوات السلطة بحملة عسكرية على محافظة
السويداء، آزرتها «فزعات عشائرية» أدت إلى ارتكاب مجزرة جديدة بحق الدروز. الأمر الذي أدى إلى نشوء بوادر لـ«تحالف أقليات» في مواجهة سلطة دمشق. عبرت هذه الأحداث عن انعدام ثقة بين السلطة والمكونات، كان من الصعب أن يجري في ظلها تنفيذ اتفاق آذار.
ولم ينقض شهر كانون الأول إلا وعادت «المشكلة العلوية» إلى الواجهة مجدداً من بوابة الهجوم الإرهابي الذي استهدف مصلين في جامع الإمام علي في حي وادي الذهب في مدينة حمص، حيث قتل وجرح عشرات العلويين. وتحول تشييع الضحايا إلى مظاهرات غاضبة عبرت عن وجع العلويين من الانتهاكات المستمرة بحقهم منذ سقوط نظام الأسد. وخرجت موجتان من هذه المظاهرات العلوية، شهدت ثانيتهما أحداث عنف ووقوع قتلى وجرحى، لجأت السلطة إلى اتهام «الفلول» بالمسؤولية عنها.
السلطة لا تريد خوض مغامرة عسكرية جديدة ضد قسد
والأصل أن السلطة القائمة في دمشق لا تقبل بالتشاركية، وتريد الاستئثار بالسلطة وبفرض تصورها الأيديولوجي على مستقبل الدولة في سوريا، وهو تصور ترفضه قطاعات واسعة من السوريين لا تقتصر على المكونات الدينية والمذهبية والقومية. ولا تملك السلطة من القوة ما يكفي لإخضاع الرافضين، فتلجأ للاستقواء بالدعم الخارجي وجمهور موالٍ عدواني في ولائه وأعلام تحريضي. غير أن الشرعية الدولية التي يحاول الاستقواء بها سيف ذو حدين، فهي تطالبه بشروط صعبة مقابل استمرار الدعم، أخطرها «تنظيف بيتها الداخلي» من جهاديين متشددين تسببوا بكوارث وطنية، وكان هجوم تدمر الذي استهدف أمريكيين بمثابة إنذار أخير في هذا الصدد.
ومن جهة أخرى تستمر العدوانية الإسرائيلية المنفلتة في «إحراج» سلطة دمشق ودفعها إلى الإذعان بصمت للشروط الإسرائيلية في إخلاء الجنوب من السلاح وقوات الجيش.
في هذه الشروط الصعبة يحرض أنصار السلطة على شن حملة عسكرية على شرق الفرات ما لم تخضع قسد طوعاً! في حين تتمسك قسد، ومن ورائها مجموع الأحزاب الكردية، باللامركزية شكلاً للدولة المنشودة، متلاقيةً في هذا المطلب مع العلويين والدروز، ليشكلوا معاً قوة وازنة لا يمكن تجاهلها أو مطالبتها بالخضوع لسلطة تحتكرها جماعة لا يمكنها أن تدعي حتى تمثيل غالبية العرب السنّة.
من المرجح أن السلطة لا تريد خوض مغامرة عسكرية جديدة ضد قسد، ولن نبتعد كثيراً عن الحقيقة إذا افترضنا أن التوتر الذي حدث في حلب كان من افتعال فصائل محلية خارج سيطرة السلطة وإن كانت رسمياً تتبع لوزارتي الدفاع والداخلية، وأنه نتاج الشحن المسموم المتواصل على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. فمغامرة السويداء التي أدت إلى خسارة الجنوب ما زالت طرية في الذاكرة.
القدس العربي