مقالات مختارة

إحياء شعرة معاوية في السياسة السورية الجديدة

رياض معسعس
الأناضول
الأناضول
شارك الخبر
قال داهية العرب ومؤسس الدولة الأموية معاوية بن أبي سفيان: «لو كان بيني وبين الناس شعرة لما انقطعت، إذا أرخوها شددتها، وإذا شدوها أرخيتها».

هذا القول يعتبر قاعدة سياسية ودبلوماسية تعود بقوة في السياسة السورية بعد سنة من سقوط النظام المخلوع الذي أدخل سوريا في عزلة دولية زهاء نصف قرن ونيف جراء سياسة التحالفات الخاطئة والمحصورة في قوى معينة هيمنت على سوريا وأثّرت تأثيراً مباشراً على مسارها السياسي.
الرئيس أحمد الشرع الذي يقود سوريا اليوم والذي أخرجها من النفق الطويل المظلم تبدو عليه سمات فطنة معاوية بإحياء شعرته، فهو يفاجئ الجميع ويبهر محدثيه بسرعة البديهة والجواب المفحم الصائب كما حصل في عدة لقاءات صحافية حاول محاوروه إحراجه في نبش ماضيه، أو استخراج ما يرضيهم منه.

لكن في الواقع الحمل ثقيل وليس من السهل قيادة سوريا اليوم بعد كل الكوارث والنكبات والكبوات التي وقعت فيها وعليها، وكل الانعكاسات التي خلّفها سقوط النظام داخلياً وخارجياً.

لم يكن متوقعا أن تفتح أبواب واشنطن، وموسكو، وبكين، والعواصم الأوربية ومعظم العواصم العربية دفعة واحدة أمام الشاب الوسيم الذي استطاع إسقاط من كان يدعي أنه «مؤبد». وفي الوقت ذاته شكك كثيرون في مقدرته السير على صراط مستقيم يرسم سياسة البعد الواحد من الجميع مع ترجيح كفة واشنطن على غيرها.

مقولة الشرع: «سوريا مع سوريا» تختصر سياسته وبوصلته التي لا تتجه فقط للشمال، بل هي في كل الاتجاهات بعيداً عن الاستقطابات والمحاور وهذا ما تحتاجه سوريا، فكل ما هو من مصلحتها فنحن نتبناه. فمكوك الزيارات لمسؤولين وسياسيين وموفدين من أنحاء مختلفة من العالم دليل على الانفتاح على سوريا كدولة واعدة تنهض من كبوتها، وتنقُّل الشرع بين فرنسا والسعودية وقطر وأبو ظبي، وتركيا، وروسيا، والبرازيل، وأمريكا، وأرسال وزير خارجيته إلى الصين، وأكثر من دولة عربية لتعزيز العلاقات ونسج تفاهمات جديدة تمسح ترسبات الماضي البغيض.

ويُظهر الشرع في سنته الأولى بأنه قائد براغماتي يتحلّى بالمرونة، ولكن صلبٌ في رؤيته من جعل سوريا الدولة «حصناً استراتيجيا» في منطقة تجتاحها الهزات بوجود قوى متضادة ولها جميعها مصالح في سوريا. وقد أثنت وزيرة خارجية كندا أنيتا أناند على التقدم المحرز نحو الإصلاحات السياسية والاقتصادية وأكدت على أهمية حقوق ورفاه جميع السوريين «.

وأثنى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الرئيس السوري أحمد الشرع وقال إنه رجل «شجاع وقوي» ويثق به لقيادة سوريا. على الجانب الآخر فمنذ العام 1956 دخلت سوريا في فلك الاتحاد السوفييتي، وتوطدت العلاقة أكثر خلال الوحدة المصرية السورية ثم بعد حرب حزيران/يونيو حيث زودت موسكو سوريا بأسلحة دفاعية وعقدت معها معاهدة صداقة في العام 1980، وبعد انطلاق الثورة في العام 2011 لم يجد بشار الأسد المخلوع حليفاً ينقذه سوى روسيا التي فتح لها قاعدة حميميم لتحميه(بعد أن فشلت إيران في حمايته) ، وانطلقت الطائرات من حميميم لتقصف مناطق الثوار ( وكان والده سمح أيضا ببناء قاعدة بحرية في طرطوس). لكن الرئيس فلاديمير بوتين (وكذلك المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي) تيقن أنه راهن على الحصان الخاسر ووافق على المقترح التركي (حسب ما جاء في تصريحات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان مؤخراً والذي قال بأنه عرَضه على إيران وروسيا) للتخلص من هذا الحصان الخاسر.

وكانت هذه نقطة إيجابية لاستمرار العلاقات بين دمشق وموسكو والحفاظ على المصالح المشتركة، وتعهد الشرع خلال زيارته لموسكو بالالتزام بجميع الاتفاقيات الموقعة سابقاً بين البلدين، وبقاء القواعد الروسية فيها. وتبقى إيران التي عانت من خيانات النظام السابق لها وتسريبات مخابراته لمواقعه لإسرائيل وأماكن اجتماعاته التي كانت تُستهدف في لحظتها وأدت إلى مقتل ضباط كبار وخسارات مادية كبيرة «غير مستعجلة من أمرها في إعادة دفء العلاقات مع القيادة الجديدة في دمشق» (كنا أول من نوه إلى أن مخابرات النظام البائد ضالعة في تسريب المعلومات إلى إسرائيل، القدس العربي 13 آب/ أغسطس 2024 في مقال وحدة الساحات ناقص واحد).
وحدها فقط دولة الاحتلال تبقى خارج السرب الدولي باعتداءاتها المتكررة على سوريا

وجاءت التسريبات المصورة التي انتشرت كالنار في الهشيم على مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرا لتوضح الصورة أكثر حول شخصية الحصان الخاسر المخلوع، وموقفه المخزي من الشعب السوري وسخريته من أبناء الغوطة، وتعرضه للرئيس فلاديمير بوتين (الذي حماه سابقاً ويوفر له إقامة مريحة في موسكو) بأنه «يقوم بعلميات تجميل» ليحافظ على وجهه دون تجاعيد». هذه التسريبات جاءت في ذكرى يوم النصر في 8 من هذا الشهر، حيث أكد الشعب السوري الذي احتفل في كل المدن السورية، وكل مدن العالم المتواجد فيها بأن السوريين يدعمون النظام الجديد، وفرحتهم عارمة بالتخلص من نظام «الأبد». وهذا ما يعزز مكانة النظام الجديد داخليا إزاء كل ناقديه ومناوئيه، وخارجياً إزاء كل من يراقب عن كثب تطورات الوضع السوري، ومن يشكك في قدراته على مواجهة كل التحديات.

وحدها فقط دولة الاحتلال تبقى خارج السرب الدولي باعتداءاتها المتكررة على سوريا، فبعد ساعات فقط من هروب بشار الأسد أطلقت دولة الاحتلال عملية «سهم باشان» والمستمرة إلى اليوم والتي دمرت خلالها كل مقدرات الجيش السوري، واحتلت أراض جديدة في منطقة الجولان منتهكة اتفاقية فض الاشتباك عام 1974.

ورغم ذلك وغياب العلاقات الدبلوماسية، هنا أيضا تلعب شعرة معاوية دوراً في العلاقات بين الطرفين إذ خاضت الحكومة السورية جولات تفاوض مباشر في باكو وواشنطن وباريس على أعلى مستوى برعاية واشنطن لكن لم تسفر إلى الآن إلى أي تقدم، نظراً لشروط بنيامين نتنياهو التعجيزية بتخصيص منطقة منزوعة السلاح من دمشق لغاية القنيطرة، هذه الشروط رفضها الشرع جملة وتفصيلا، وأكد الشرع في منتدى الدوحة على وجود مفاوضات مع إسرائيل وأضاف متسائلا:» سوريا هي التي تتعرض إلى هجمات من إسرائيل، فمن الأَولى أن يطالب بمنطقة عازلة وانسحاب؟».

الرئيس الأمريكي أنذر دولة الاحتلال المارقة وطالبها بإنجاز اتفاق أمني مع دمشق.

الشرع في سنته الأولى قدم إنجازات لا يستهان بها دولياً أوصلت إلى رفع العقوبات عن سوريا اوروبياً وأمريكياً، وتم استقباله كأول رئيس سوري في الأمم المتحدة وفي البيت الأبيض، وبدأت الاستثمارات تدخل سوريا، وداخلياً قام بأكثر من محاولة لرأب الصدع في المجتمع السوري وتطمين كل مكونات الشعب السوري بأن سوريا لكل السوريين، وأُجريت انتخابات تشريعية، وبالانتظار بناء المؤسسات من أحزاب سياسية، ونقابات، وجمعيات، ونواد اجتماعية، والنهوض بالتعليم، والاقتصاد، وإعادة بناء ما دمر من بنى تحتية ومسكنية، وعودة اللاجئين والنازحين إلى ديارهم.
الطريق طويلة وشاقة، ولكن لا مفر من خوضها حكومة وشعباً دون أن ننسى شعرة معاوية.

القدس العربي
التعليقات (0)