كتاب عربي 21

كيف تحولت "القضية الجنوبية" إلى مصدر تهديد لليمن

ياسين التميمي
"انقلاب كامل بدأ لإسقاط الجمهورية اليمنية، ولفرض ما تُسمى بـ"دولة الجنوب العربي"، بغطاء إماراتي لا يخفى على أحد"- جيتي
"انقلاب كامل بدأ لإسقاط الجمهورية اليمنية، ولفرض ما تُسمى بـ"دولة الجنوب العربي"، بغطاء إماراتي لا يخفى على أحد"- جيتي
شارك الخبر
القضية الجنوبية يُعاد طرحُها مجددا من جانب المعنيين بالشأن اليمني، وسط إصرار عجيب على وصفها بـ"العادلة"، على الرغم من أنها تحولت منذ أيار/ مايو 2017 (تاريخ صعود المجلس الانتقالي الجنوبي بدعم إماراتي) إلى أحد أهم مهددات وجود الدولة اليمنية وشرعية التدخل العسكري للتحالف، وأحد أهم مبررات ترسيخ الوجود الانقلابي لجماعة الحوثي على الدولة وهيمنتها على شمال البلاد.

إن التطورات العسكرية الخطيرة التي اندلعت في الثاني من كانون الأول/ ديسمبر، إثر اجتياح قوات المجلس الانتقالي لمحافظة حضرموت، تؤكد الانحراف الواضح في مسار القضية الجنوبية، في ظل الإصرار على توظيفها لفرض وقائع جديدة تقود في النهاية إلى تشييع الجمهورية اليمنية نفسها إلى مقبرة التاريخ.

الانحراف الواضح في مسار القضية الجنوبية، في ظل الإصرار على توظيفها لفرض وقائع جديدة تقود في النهاية إلى تشييع الجمهورية اليمنية نفسها إلى مقبرة التاريخ

وبناء على هذا الفهم، فإنه لم يعد من المستغرب رؤية المجلس الانتقالي يمضي قدما في تثبيت الوقائع العسكرية الجديدة في شرق اليمن، عبر إجراءات انفصالية تتم من طرف واحد، وتشمل الاستحواذ على هياكل الدولة اليمنية ومقراتها الرسمية ومؤسساتها السيادية ومنافذها البرية والجوية، وإجبار الوزراء والموظفين الرئيسيين المتواجدين في عدن على تأييد إعلان الانفصال، وحشر أهم ما تبقى لديها من إمكانات عسكرية ومادية في جيوب، تحت ضغط مشترك ومنسق مع سلطة الأمر الواقع الحوثية في شمال اليمن، ووسط ادعاءات لم تتوقف بأن العمليات العسكرية للانتقالي هدفها محاربة الإرهاب ووضع حد للتهريب.

أي أن انقلابا كاملا قد بدأ لإسقاط الجمهورية اليمنية، ولفرض ما تُسمى بـ"دولة الجنوب العربي"، بغطاء إماراتي لا يخفى على أحد، ودعم تجلّى في التحشيد الهائل على المستويات السياسية والإعلامية والعسكرية واللوجستية، رسّخ الإمارات طرفا معاديا لم يعد بالإمكان الاستمرار في الحديث عن دوره وسيطا في معالجة تداعيات التمرد الأخير، أو داعما للشرعية.

ومن الواضح أن هذا الانقلاب، الذي لم يجد في مقابله دولة مجسدة ماديا وعسكريا على أرض الواقع، ولا حتى قرارا سياديا قويا وفعالا يصدّه ويردعه، قد اصطدم -لحسن الحظ- برفضٍ سعوديٍّ حاد، لا ندري نسبة تحرره من المناورة السياسية، لكنه حازم بما يكفي لينذر بتطورات عسكرية قد تجبر الانتقالي بالقوة على سحب قواته من حضرموت والمهرة.

وليبدو هذا الأمر متسقا مع السيادة اليمنية، فقد سبقه إجراءٌ من جانب الحكومة اليمنية ومجلسها الأعلى للدفاع الوطني، إذ عقد هذا الأخير اجتماعا برئاسة رئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور رشاد العليمي، وطلب من المملكة العربية السعودية التدخل عسكريا لحماية المدنيين من الانتهاكات التي يرتكبها المجلس الانتقالي في محافظتي حضرموت والمهرة.

قد يبدو هذا الطلب مستغربا، خصوصا أن التفويض لم ينتهِ، لكن التفسير الأمثل له هو أن السعودية تريد أن تتصرف بمشروعية كاملة في ساحة تواجه فيها تمردا صنعته ودعمته ومكّنته الإمارات، ووفرت له كل الأسباب ليُحدث هذه الصدمة القوية والأثر المزلزل في الحسابات السعودية وترتيباتها في المنطقة؛ التي لطالما تعاملت معها كمجال نفوذ حيوي لها في اليمن. ومع ذلك، تحرص الرياض على استدعاء الإمارات إلى جهدها السياسي، كراعية ووسيط في إنهاء الأزمة الناشئة عن تحركات الانتقالي واستحداثاته في شرق البلاد. وربما كان ذلك ضربا من الرد المتدرج، لكنه شديد التأثير على التوسع العسكري السريع للانتقالي في شرق اليمن، المعزَّز بنفوذ إماراتي منافس وشديد العدائية.

تترسخ اليوم قضية اليمن الأكثر مشروعية والأكثر عدالة، عما سواها من الذرائع كقضية صعدة والقضية الجنوبية، اللتين تسببتا في جر البلاد وأمنها واستقرارها إلى المهالك. والقضية الأكثر عدالة هي استعادة الدولة من براثن الجماعات المسلحة الطائفية والانفصالية والشمولية، بحيث لا يبقى مجالٌ لأي مخطط أو نوايا مضمرة تسعى إلى تفكيك اليمن في ظروف مناسبة، بدعاوى "القضية الجنوبية العادلة".

إنهاء التواجد العسكري للانتقالي لن يتوقف عند حدود إخراج حضرموت من دائرة الاستهداف الإماراتي، ويتعداها إلى تمكين الشرعية ورئيسها وحكومتها من ممارسة إدارة البلاد من عدن، والتهيئة لإنهاء كل مظاهر الانقلاب على الدولة

الخطر لا يحدق باليمن فقط جراء الاستمرار في الحديث عن قضية جنوبية استنفدت أغراضها، بل يتعداه إلى الإقليم برمته، خصوصا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار خطورة التغول الانفصالي المعزَّز بالتخادم الإماراتي-الإسرائيلي، الذي تجلّى في قرار رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الاعتراف بجمهورية أرض الصومال الانفصالية. إذ يدفع سلوك كهذا المنطقةَ إلى مستوى خطير من النزاع متعدد الأطراف، ويهدد المصالح الحيوية لدولها، ويعيد تشكيل حدود النفوذ بالحديد والنار، انطلاقا من الفرص التي تتيحها النزعات الانفصالية، والحروب، وحالة عدم الاستقرار، خصوصا في المناطق الأكثر هشاشة.

ولعلّه من اللافت أن السعودية، التي روّجت بشكل قوي لـ"القضية الجنوبية العادلة"، تضطر اليوم إلى التفكير في القضية الجوهرية التي يتوقف عليها أمن واستقرار اليمن، على نحو ما عبّر عنه وزير دفاعها الأمير خالد بن سلمان، الذي شدد على أن "استعادة الأرض والدولة" هي القضية الأساسية، وألا تتحول التضحيات التي بُذلت إلى مدخل لصراعات جديدة، وأن يُصان الأمن لليمنيين كافة، وألا تُستغل تلك التضحيات لتحقيق مكاسب ضيقة.

وإذ تتسارع الأحداث فإن المرء يحتاج إلى أن يبقى يقظا حيال نوايا السعودية بخصوص الانتصار للدولة اليمنية ونفوذها، لأن إنهاء التواجد العسكري للانتقالي لن يتوقف عند حدود إخراج حضرموت من دائرة الاستهداف الإماراتي، ويتعداها إلى تمكين الشرعية ورئيسها وحكومتها من ممارسة إدارة البلاد من عدن، والتهيئة لإنهاء كل مظاهر الانقلاب على الدولة اليمنية، وتلك هي القضية الكبرى والقضية العادلة.

x.com/yaseentamimi68
التعليقات (0)

خبر عاجل