مُنعتُ من السفر أول أمس (21 كانون الأول/ ديسمبر)،
تمّ استيقافي في مكتب الجوازات في مطار القاهرة
لثلاث ساعات، حتى أقلعت الطائرة، ثمّ أبلغني الضابط "لن تسافر"، هكذا
بكلمتين قرّرَ أحدهم -يعرفه الجميع ولا يعرفه أحد- أن يهدم تصورا قضيتُ سنين في
بنائه عن الحريّة، خارج حدود المستنقع الذي أصابنا عسكره وخدمهم بما أصابونا به
(نحن والوطن)، وعدتُ لصاحبتي في سيّارتها صامتا، لأجيب لا إراديّا على سؤال رفيقٍ
حول "ماذا بعد؟"، قائلا: "معركة جديدة".
لا أعرفُ بعد
حدود المعركة ولا توابعها، لكنّ سؤالا شغل بالي في طريق الرجوع إلى الآن، ولعلّه -هذه
السؤال- أكثر ما فكّرتُ فيه على مدار سنين عمري: "متى نتحرّر؟".
وأنت تغادرُ
زنزانتك لا يخطر ببالك الساذج أنّ
زنزانة أشدّ اتساعا تمتدُّ أمامك، لا على
التصوّر المستفزّ الذي يرِدُ إلينا في رسائل الدعم الكسول؛ "أنتم الأحرار
ونحنُ السجناء"، إنّما بالنظر إلى الزنزانة كأداة واحدة في يد السلطة التي في
مواجهة أحلامنا وحيواتنا تقف مسلّحة، أداة وحيدة ضمن أدوات كثيرة لا تكاد تنتهي،
وعلى باب الزنزانة الأضيق، ستقابلك طبقات الزنازين على اختلاف مساحاتها وطبيعة
سجانيها.
شبكة الخوف المبثوثة في نسيج الحياة كلّها، أعقد بكثير من ذلك السجّان الذي يحمل مفاتيح الزنزانة، أو الآخر الذي يحمل مفاتيح القصر، فهي قادرة على زعزعة قناعاتك، وإفقادك الثقة، وسلبك الأمل
لعلّ أشقّها على
النفس -فور الخروج- تلك التي ينحبس فيها كلٌّ بعد أن يُحبس، يخوَّف فيخاف، ويراجَع
فيرجع، ويُعاقب فيرتدِع، وتماما كالفارق بين الهزيمة وبثّ روحها في الناس وقت
المعركة، هناك الحبس، وتحبيس الناس بنقل الذعر إليهم، ولو حسنت النوايا -وهي غالبا
حسنة- وصدقت المقاصد في الخوف عليك من مصائر الآخرين، أو حتى من مصيرك أنت قبل
أيّام.
لم يعد فقط
"مخبر في كلّ عقدة، عسكر في كلّ مينا"، بل انتقل المخبرون والعساكر إلى
الذهن، يراجعونك في كلّ حرفٍ تكتبه، وكلّ هتافٍ تردّده، وكلّ اجتماعٍ تحضره، وبعد
قليل، يصبح حتى التفاعل الصامت/الافتراضي موضع مراجعة وتخويف، والنتيجة: انسحاب
الهزيمة لمواضع لم تخض المعركة ولم تُهزم أصلا، انتقل إليها الوباءُ في أرواح
المنهزمين، ولو حاولوا أو تركوا غيرهم يحاول، لظلّ انتزاع شيءٍ من الحقّ ممكنا.
وكما تحفظُ قدميّ
خطوات التريّض وتحدّدها تلقائيّا في أيّ مساحة مهما اتّسعت وأظلُّ أروح وأجيءُ
فيها كأنّ جدارا لا أراه يحجزني، وكما أهلعُ في الأمكنة الضيّقة، وتفزعني الأصوات
التي تشابهُ الصفع وصرخات التعذيب، يحفظ عقلي جدرانا وفزعا مشابها، أعيها لأحطّمها
مع الوقت، كي لا أقع حبيس نفسي و"عيني الداخليّة" التي تجعلني أراقب
نفسي نيابة عن السجّان، تطهيرا لجهازي العصبي والنفسي -وربّما الأخلاقي- من قيود
السجن وسلوك السجن وذهنيّة السجن.
ولعلّ المأزق هنا
لا في الوعي بحال القيود بعد الخروج من الزنزانة وحده، إنّما في مقاومته كذلك
-وهذه ابنة تلك- فشبكة الخوف المبثوثة في نسيج الحياة كلّها، أعقد بكثير من ذلك
السجّان الذي يحمل مفاتيح الزنزانة، أو الآخر الذي يحمل مفاتيح القصر، فهي قادرة
على زعزعة قناعاتك، وإفقادك الثقة، وسلبك الأمل (لديّ إشكال مع هذه الكلمة إلا
هنا، وربّما أقصد منها المحاولة لا تفاؤلا ولا تشاؤما إنّما قياما بالدور).
لعلّ الخروج الحقيقي ليس من باب المعتقل وحده، إنّما من باب الخوف الذي يُغرس قسرا في لا وعيك، أن تحيا ولو تحت المراقبة، أن تحب ولو تحت التهديد، أن تحكي ولو تحت التنصّت الدائم، أن تفعل كلّ ما يحول بينك وبين البقاء في الزنزانة التي خرجت منها، أو بقائها هي فيك
وكما أغبطُ نفسي
على الغياب القسريّ عن حالة التشوّه التدريجيّ التي أصابت غالب من حضروا اللحظة
وعايشوها (تلك الممتدّة لعشر سنين أو أكثر)، إذ يلزمُ وجود نفرٍ كفتية الكهف (حالا
قسريّا لا دلالة إيمانية) ما زالت لديهم القدرة على الاندهاش والمفاجأة والاستغراب
مع كلّ ما أصبح معتادا ومطبّعا معه في سنوات الغياب تلك، أغبطُ نفسي كذلك على
محاولة التفكير الدائم والسؤال الدائم للذات قبل الغير، حول المصطلح -والقاموس
كلّه بالتبعيّة- وحول الفعل، والسياق، والغاية، لا عن حكمةٍ إنّما عن تشكّكٍ دائم
في ما يمكن أن أقع فيه، لو فقدتُ لجام نفسي ولو للحظة، خوفا أو طمعا.
ولعلّ التجربة
علّمتني الكثير وما زالت، إلا أنّني أقاوم في لحظة الكتابة تلك محاولات رمنستها، فأتجنّب
الكتابة عن المقاومة كوسيلة وحيدة لعالم سعيد أو لحياة سويّة (وأنا أؤمن بذلك)،
لأكتب أن "استعادة اللحظة الحالية" والعيش فيها ربّما يكون هو المعركة،
أن تسير في الشارع دون التفات، أن تنام دون كوابيس، أن تسعد في صحبة، أن تحبّ
وتكره، تلعب وترقص، تغضب وتتشاجر، أن تثق بإنسان جديد، تزرع وردا في شرفتك، أو
تحزم حقيبتك وتسافر تاركا هذا كلّه وراء ظهرك. فقط كي لا تسمح لعدوّك سواء في
السلطة أو في المجتمع أن يمسك بخيوط رأسك، كما يمسك بالعصا والمسدّس.
خلاصة:
تعلّمتُ في السجن
أنّ الحريّة حالة ذهنية يمكن تخليقها داخل الزنزانة، وتعلّمتُ في الخارج أنّ السجن
حالة ذهنيّة يمكن الرضوخ إليها خارج السور، ربّما يمكن الفارق الوحيد أن في الداخل
تعرف حجم العدو وتعاينه، أما في الخارج فيمكن له أن يتسرّب كسمّ في مياه حياتك
اليوميّة.
ولعلّ الخروج
الحقيقي ليس من باب المعتقل وحده، إنّما من باب الخوف الذي يُغرس قسرا في لا وعيك،
أن تحيا ولو تحت المراقبة، أن تحب ولو تحت التهديد، أن تحكي ولو تحت التنصّت
الدائم، أن تفعل كلّ ما يحول بينك وبين البقاء في الزنزانة التي خرجت منها، أو بقائها
هي فيك.
لن تكون حرّا
تماما، لكن عليك أن تحرص ألا تكون سجينا تماما، هذه هي المعركة الحقيقيّة: البقاء
إنسانا في عالم يتفنّن في تجريدك من إنسانيّتك.