على مرّ التاريخ، كانت المعاجم اللغوية
العربية أكثر من مجرد قوائم للألفاظ وتعريفاتها، فهي مخازن للذاكرة اللغوية
والثقافية للأمة، ومرايا تعكس تطور الفكر والحضارة العربية عبر القرون. منذ أوائل
محاولات التوثيق اللغوي في القرن الثاني الهجري، مرورًا بموسوعات سيبويه
والنيسابوري، وصولًا إلى المعاجم المعاصرة، كانت العربية تحظى باهتمام متجدد من
الباحثين الذين سعوا إلى حفظ ألفاظها، وتوضيح دلالاتها، ورصد تحولاتها الصرفية
والنحوية.
المعجم التاريخي، على وجه الخصوص، لا يكتفي
بتعريف الكلمات، بل يرصد حياتها في سياقها الزمني والمعرفي، فيكشف عن طبقات
المعنى، ويبرز انعكاسات الأحداث الاجتماعية والسياسية والثقافية على
اللغة. وهو
بذلك يصبح أداة لفهم تاريخ الأمة نفسها عبر لغتها، لا مجرد أداة للتعليم أو البحث
اللغوي.
في هذا السياق، يبرز معجم الدوحة التاريخي
للغة العربية كخطوة حضارية نوعية، إذ جمع بين العمق التاريخي والمنهجية العلمية
الحديثة، ليقدّم للأجيال العربية والعالمية نصًا موثّقًا وشاملاً عن مسيرة الكلمة
العربية منذ أقدم النصوص المكتوبة وحتى العصر الرقمي، مما يجعله جسرًا بين التراث
والحداثة، بين البحث الأكاديمي وتطبيقات المعرفة المعاصرة.
ويأتي حفل اكتمال المعجم في الدوحة، الذي
نتابعه في هذا التقرير، ليكون احتفالًا بالعلم والثقافة واللغة، ويؤكّد مكانة
العربية كلغة حية وفاعلة في مسار المعرفة الإنسانية، وقدرتها على التجدد والتكيف
مع متطلبات العصر الرقمي والعلمي.
شهدت العاصمة
القطرية الدوحة صباح اليوم
الاثنين حدثًا علميًا وثقافيًا عربيًا بارزًا، تمثل في حفل اكتمال معجم الدوحة
التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني،
وبالتعاون مع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
أقيم الحفل في قاعة كتارا
بفندق فيرمونت رافلز – لوسيل، بحضور نخبة من العلماء والمختصين في اللغة العربية
وممثلين عن المنظمات الإقليمية والدولية.
يمثل معجم الدوحة التاريخي للغة العربية أحد
أضخم المشاريع اللغوية العربية في العصر الحديث، ويُعد من المعاجم التاريخية
القليلة عالميًا التي اتبعت منهجًا علميًا دقيقًا لتوثيق تاريخ الألفاظ العربية
وتطور دلالاتها منذ أقدم النصوص العربية وصولًا إلى الاستخدامات المعاصرة. ويقدم
المعجم دراسة شاملة للكلمة العربية في سياقاتها الزمنية والمعرفية والحضارية، مع
رصد تحوّلاتها الدلالية والصرفية والاستعمالية على امتداد أكثر من عشرين قرنًا.
كلمات الشخصيات العلمية البارزة
افتتح الحفل الدكتور عزّ الدين البوشيخي،
المدير التنفيذي لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية، مرحبًا بالحضور، مشددًا على
الأهمية العلمية والمنهجية للمشروع، الذي يمثل "ثمرة عمل مؤسسي تراكمي امتد
لسنوات طويلة". وأكد أن المعجم يهدف إلى حفظ الهوية اللغوية للغة العربية،
واستعادة الثقة بالنفس، وتعزيز الطموحات الحضارية للأمة العربية.
في كلمتها، أكدت لولوة بنت
راشد الخاطر، وزير التربية والتعليم والتعليم العالي، الدور المحوري للمعجم في دعم
تعليم اللغة العربية، مشددة على أن الاستثمار في المشاريع اللغوية الكبرى ركيزة
أساسية لبناء المعرفة وصون الهوية الثقافية، وترسيخ مكانة اللغة العربية محليًا
وعالميًا.
أما الدكتور سالم بن محمد المالك، المدير
العام لمنظمة "إيسيسكو"، فقد نوّه بالقيمة العلمية الرفيعة للمعجم وأهميته في المشهد
الثقافي والحضاري العربي والدولي، معبّرًا عن تقديره لرعاية دولة قطر لهذا المشروع
العلمي الكبير واستعداد المنظمة لدعمه بكل إمكاناتها.
من جهته، أشاد الدكتور محمود أحمد السيّد،
رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق، بالدور المحوري للمعجم في توثيق تاريخ اللغة
العربية ودعم البحث المعجمي واللغوي، مشيرًا إلى الإمكانات العلمية غير المسبوقة
التي يتيحها للباحثين والدارسين.
واختتم الكلمات الدكتور عزمي بشارة، المدير
العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بالإشارة إلى البعد الحضاري
والمعرفي للمشروع، وأهمية استخدام معجم الدوحة في تطوير التطبيقات العربية للذكاء
الاصطناعي، مؤكدًا أن هذا الإنجاز يمثل قدرة العمل العلمي العربي المؤسسي على
إنجاز مشاريع معرفية استراتيجية طويلة الأمد.
البوابة الإلكترونية الجديدة
شهد الحفل أيضًا إطلاق البوابة الإلكترونية
الجديدة للمعجم التاريخي، والتي تمثل نقلة نوعية في إتاحة المادة المعجمية
التاريخية عبر أدوات بحث متقدمة تتيح تتبع الألفاظ العربية وتطور دلالاتها بسهولة
ودقة. ويعزز هذا التوجه الرقمي التكامل بين العمل المعجمي والوسائط الرقمية
المعاصرة، بما يخدم الباحثين والطلاب والمهتمين باللغة العربية.
عرف الحفل حضورًا واسعًا لنخبة من علماء
اللغة العربية ورؤساء المجامع اللغوية والمستشرقين والباحثين، إضافة إلى أعضاء
المجلس العلمي للمعجم وفريق العمل الذي أسهم في إنجازه. وشمل الحفل تكريم خبراء
المعجم من العلماء والباحثين والمحررين تقديرًا لجهودهم المتواصلة في إخراج
المشروع إلى حيز الاكتمال، ما يعكس أهمية العمل الجماعي والمؤسسي في إنجاز المعاجم
التاريخية الكبرى.
معجم الدوحة.. بداية مرحلة جديدة
اختتم الحفل في أجواء احتفالية أكدت
الاعتزاز بهذا الإنجاز العلمي العربي الكبير، مع التأكيد على أن اكتمال المعجم لا
يمثل نهاية المشروع، بل بداية مرحلة جديدة في توظيفه لخدمة اللغة العربية
ومستقبلها. ويشكل المعجم إضافة نوعية لإعادة بناء الوعي بتاريخ العربية، وتعزيز
مكانتها كلغة حية قادرة على التجدد ومواكبة العصر والمشاركة الفاعلة في المشهد
المعرفي العالمي.