بعد أن كتبت عن مخيمات شمال الضفة بعد زيارة ميدانية شملت مخيمي نور شمس وطولكرم مرورا بنابلس وعنبتا، أحببت أن أكمل الصورة من
غزة، ولكن هذه المرة عبر شهادة زميلة لي كنا عملنا معا في ما مضى في المنظمة الدولية. خرجت وظلت صامدة وارتقت في المناصب، لأنها عملت في مناطق صراعات عديدة آخرها غزة. تعمل في غزة مع المنظمات الإنسانية من قبل 7 أكتوبر.
عاشت الحرب بتفاصيلها، وطلبت مني ألا أفصح عن هويتها، لأن ما ستحدثني به كصديق، ليس سرا، لكن نشره تحت اسمها يحتاج إلى اعتماد من مسؤوليها. واتفقنا على نشر ما بعثته لي في مقالي الأسبوعي وليس لمن قدم المعلومات. أنقل شهادتها بقليل من التغيير، أو الاختصار، وحذف الجمل البروتوكولية.
الوضع عندنا في غزة ما زال بالغ الخطورة، والمعاناة مستمرة، إذ لا يمكن، حتى لو توفرت اليوم جميع الموارد في العالم، إحداث تغيير سريع في هذا الواقع. فالدمار الذي وقع، والانهيار الشامل لتلك الأنظمة، سيستغرق إصلاحه وقتا طويلا. حجم
الدمار يفوق الوصف.
هناك نحو 60 مليون طن من الركام، وإزالته وحده ستستغرق سنوات طويلة، إعادة الإعمار ستستغرق أجيالا، ناهيك عن الصدمة النفسية العميقة التي ستلازم الأطفال لسنوات طويلة.
ما زلنا نواجه عوائق كثيرة، منها ما كان قائما قبل ذلك، فالوضع الإنساني بالغ السوء. نعمل بأقصى سرعة ممكنة لتلبية احتياجات الناس، لكن حجم الاحتياجات هائل. فجميع سكان غزة اليوم بحاجة إلى مساعدات إنسانية. لاحظنا خلال وقف إطلاق النار في يناير الماضي، ونلاحظ الأمر نفسه مرة أخرى مع وقف إطلاق النار الحالي الذي بدأ في أكتوبر، أن إدخال كميات أكبر من الإمدادات، إلى جانب عودة الشرطة المدنية إلى الشوارع لمراقبة النظام العام والسلامة العامة، أسهم بشكل واضح في تراجع أعمال النهب واختفاء هذه البيئة إلى حدٍّ كبير.
لا يزال هذا الأمر قائما لكن بشكل محدود جدا، إذ ما زالت تقع بعض حوادث النهب الانتهازية. وغالبا ما يحدث ذلك عندما نعلَق في طرق مزدحمة، أو عندما نُجبر على الانتظار لفترات طويلة في مثل هذه المواقع. لكن، وباستثناء هذه الحالات، فقد اختفت هذه الظاهرة إلى حدٍّ كبير.
وحول وقف إطلاق النار لقد أكدنا مرارا، بصفتنا الأمم المتحدة، أننا نريد أن يُحترم وقف إطلاق النار من جميع الأطراف دون استثناء، وأن يمضي قدما، وأن تُنفذ الخطة المتفق عليها، وأن ننتقل إلى المرحلة التالية.
كما نطالب بزيادة يومية في حجم الإمدادات التي تدخل غزة، ورفع العوائق التي ما زلنا نشير إليها باستمرار، والتي تحول دون توسيع نطاق الاستجابة بالسرعة المطلوبة، من أجل الوصول السريع إلى المحتاجين. لقد شهدنا تحسنا ملحوظا، وكانت لدينا آمال كبيرة مع دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ. لقد زدنا عدد نقاط توزيع الغذاء، ومواد الإيواء، ونواصل إعادة فتح المراكز الصحية، وإعادة تأهيل الصفوف الدراسية، وإزالة الأنقاض من الطرق، وإصلاح شبكات المياه والصرف الصحي.
وهذه مهمات ليست سهلة. وعند الجمع بين هذا الدمار والعوائق القائمة، يتضح سبب عدم تحسن الوضع بالسرعة التي نتمناها، واستمرار معاناة السكان في ظروف قاسية للغاية. ولا نزال، للأسف، نفقد أرواحا، سواء بسبب بطء وتيرة الإجلاء الطبي، أو بسبب وفاة أشخاص ـ وأطفال ـ نتيجة البرد القارس، لكن وتيرة التوسع في الاستجابة لا تزال دون المستوى المطلوب.
نحن ننسق مع جميع الوكالات، فالأمم المتحدة والمجتمع الإنساني ليسا الجهات الوحيدة العاملة على الأرض، هناك أيضا جهات أخرى ودول تعمل معنا جنبا إلى جنب. كما تُستكمل المساعدات الإنسانية بدور من القطاع الخاص، ونأمل استمرار ذلك، وتمكينه من إدخال مواد غذائية مغذية وبأسعار في متناول السكان. فما نراه اليوم هو استمرار فقر التنوع الغذائي، لأن معظم الناس لا يستطيعون تحمل أسعار السلع في الأسواق، ورغم أن الأسواق متوفرة وفيها معظم السلع، كالدجاج والبيض، لكن أسعارها أعلى بكثير من مستويات ما قبل الحرب، خاصة أن الناس فقدوا معظم مدخراتهم خلال العامين الماضيين.
ولهذا، يعتمد كثيرون على الحبوب كالأرز والبقوليات كالعدس والفاصولياء، فيما تظل منتجات الألبان الطازجة والبيض الطازج واللحوم شبه غائبة عن موائد الكثيرين، رغم تحسن محدود في تنوع الغذاء خلال الأسابيع الأخيرة.
النظام الصحي في غزة، لا يزال كغيره من الخدمات، والبنى التحتية الحيوية، في حالة دمار شديد
النظام الصحي في غزة، لا يزال كغيره من الخدمات، والبنى التحتية الحيوية، في حالة دمار شديد. وقد وضعناه على رأس أولوياتنا لإعادة التأهيل بأسرع وقت ممكن. فمن أصل 36 مستشفى في قطاع غزة، يعمل حاليا 18 مستشفى فقط، ولا يعمل أي منها بكامل طاقته. نصف المستشفيات متوقف تماما، والنصف الآخر يعمل جزئيا، ما يعني نقصا حادا في المعدات، والأدوات، والأدوية، والإمدادات اللازمة لتلبية احتياجات السكان. وتبرز هذه المشكلة بشكل خاص لدى مرضى الأمراض المزمنة، التي تتطلب رعاية منتظمة وتجهيزات متخصصة.
ورغم تراجع أعداد الإصابات الناجمة عن الصدمات بعد وقف إطلاق النار، لا تزال الإصابات المدنية مستمرة، بما في ذلك بين الأطفال، وهو أمر بالغ القلق. كما نواجه أزمة خطيرة في الإجلاء الطبي، إذ ينتظر أكثر من 16500 مريض الإجلاء خارج غزة، وقد فقدنا بالفعل نحو ألف مريض توفوا أثناء انتظارهم، وهو أمر مأساوي كان بالإمكان تجنبه في كثير من الحالات.
تتركّز أولويات عملنا الآن على ضمان ألّا يُترك أحد خلف الركب، وعلى الوصول إلى الفئات الأشد ضعفا، حتى لا يُنسى أحد، أو يسقط خارج نطاق الاستجابة. ولهذا نحرص على تحديد هذه الفئات بدقة، بما في ذلك الأسر الأشد فقرا، والأسر التي تعيلها جهة واحدة، والأشخاص ذوو الإعاقة، وكبار السن، والأطفال، ولاسيما أولئك الذين فقدوا أحد الوالدين أو كليهما، أو خسروا عائلاتهم بالكامل. قطاعا التعليم والصحة أيضا من الأولويات الرئيسية، إلى جانب التغذية وخدمات الحماية، بما يشمل معالجة قضايا العنف القائم على النوع الاجتماعي، وحماية الأطفال، وإزالة الألغام. ويأتي المأوى ضمن القضايا الأكثر إلحاحا، ولاسيما مع دخول فصل الشتاء وازدياد العواصف والأمطار. وقد بدأنا الاستعداد للشتاء منذ أشهر، ووزعنا، قدر الإمكان، مواد الإيواء الأساسية، بما في ذلك الخيام، والأغطية البلاستيكية، وأدوات الفراش، والصفائح البلاستيكية، والملابس الشتوية، لضمان تلبية الحد الأدنى من احتياجات الناس. لكن الكميات المتاحة من مواد الإيواء لا تزال بعيدة عن تلبية الاحتياجات الفعلية. فنحن نتحدث عن عشرات الآلاف من المواد مقابل نحو 1.5 مليون شخص بحاجة إلى دعم في مجال المأوى. ولذلك، فإن الخيام وغيرها من المواد القادرة على توفير مأوى فعلي فوق الرأس لا تزال غير كافية إلى حدٍّ كبير.
أما عن مشاعر الناس العاديين بعد وقف إطلاق النار فهناك شعور عارم بالفرح والأمل، ولا يزال قائما إلى حد ما، لكنه ترافق مع إحباط شديد بسبب بطء التحسن. لا يزال الناس يعيشون في منازل مدمرة، أو في خيام، أو بلا مأوى أصلا، فيما تتسبب العواصف المطرية والفيضانات المتكررة في تدمير ما تبقى من الملاجئ. أحد أكثر المطالب التي أسمعها ضرورة عودة الأطفال إلى المدارس. التعليم مسألة جوهرية للفلسطينيين، لكن الدمار الهائل، واستمرار منع إدخال المستلزمات التعليمية، يعيق ذلك. لم نتمكن سوى من إدخال بضعة آلاف من الحقائب التعليمية، فيما تُمنع مواد أساسية كالأدوات القرطاسية، رغم أهميتها الحيوية لصحة الأطفال النفسية ومستقبلهم.
نتطلع في بداية العام المقبل لأن نرى احتراما شاملا لوقف إطلاق النار وضمان حماية المدنيين، وزيادة نوعية وكميات الإمدادات، لاسيما مواد الإيواء، والتعليم، والمعدات اللازمة لإزالة الركام وإعادة تأهيل البنية التحتية، بما يتيح تشغيل الأنظمة الحيوية بسلاسة ودون تأخير.
القدس العربي