قضايا وآراء

نحو مقياس متوازن للتضخم

أشرف دوابة
"غالبا ما يُقال إن التضخم "تراجع" أو "تباطأ"، بينما الحقيقة أن الأسعار لم تنخفض، بل توقفت فقط عن الارتفاع السريع، وبقيت عند مستويات مرتفعة تُثقل كاهل الأسر"- الأناضول
"غالبا ما يُقال إن التضخم "تراجع" أو "تباطأ"، بينما الحقيقة أن الأسعار لم تنخفض، بل توقفت فقط عن الارتفاع السريع، وبقيت عند مستويات مرتفعة تُثقل كاهل الأسر"- الأناضول
شارك الخبر
أثار الجدل المتكرر حول نسب التضخم المعلنة في كلٍّ من تركيا ومصر؛ تساؤلات واسعة لدى الرأي العام، إذ تُظهر البيانات الرسمية الأخيرة أن معدل التضخم السنوي في تركيا يدور حول 31 في المئة، بينما تشير الأرقام في مصر إلى معدل يقارب 12 في المئة، وهي نسب يُقال إنها تعكس تباطؤا أو تحسنا نسبيا مقارنة بمستويات سابقة، غير أن الواقع المعيشي الذي يلمسه الناس على الأرض يبدو مختلفا إلى حدٍّ كبير، حيث يستمر غلاء الأسعار، وتتآكل الدخول، وتتسع الفجوة بين الأجور وتكاليف المعيشة، بما يثير شعورا عاما بأن الأرقام المعلنة لا تعبّر بدقة عن حقيقة ما يجري.

هذا التباين بين المؤشر الإحصائي والواقع اليومي لا يمكن ردّه إلى الانطباعات النفسية وحدها، بل يكشف عن إشكالية أعمق تتعلق بطريقة قياس التضخم نفسها، ومدى قدرتها على التعبير عن الارتفاع الحقيقي والمتراكم في مستوى الأسعار عبر الزمن.

التباين بين المؤشر الإحصائي والواقع اليومي لا يمكن ردّه إلى الانطباعات النفسية وحدها، بل يكشف عن إشكالية أعمق تتعلق بطريقة قياس التضخم نفسها، ومدى قدرتها على التعبير عن الارتفاع الحقيقي والمتراكم في مستوى الأسعار

ويُعرَّف التضخم اقتصاديا بأنه الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار بما يؤدي إلى تآكل القوة الشرائية للنقود، أي أن العملة الواحدة تفقد مع مرور الوقت قدرتها على شراء الكمية نفسها من السلع والخدمات، وهو بذلك لا يقتصر على زيادة سعر سلعة بعينها، بل يشمل تغيّرا عاما في أسعار سلة واسعة من السلع والخدمات التي تمثل نمط استهلاك المجتمع.

وتعتمد المؤسسات الإحصائية والبنوك المركزية في قياس التضخم على مؤشرات متعددة، أبرزها التضخم السنوي الذي يقارن أسعار شهر معيّن بأسعار الشهر نفسه من العام السابق، والتضخم الشهري الذي يقيس التغير بين شهرين متتاليين، إضافة إلى ما يُعرف بالتضخم الأساسي الذي تُستبعد منه السلع الأكثر تقلبا مثل الغذاء والطاقة، غير أن هذه المقاييس، على أهميتها الفنية ودورها في توجيه السياسات النقدية، لا تعطي صورة كاملة عن حقيقة مستوى الأسعار الذي يعيشه الناس في حياتهم اليومية.

فهذه المؤشرات تقوم في جوهرها على مقارنات زمنية قصيرة، وتغفل الأثر التراكمي لارتفاع الأسعار عبر سنوات متتالية، كما أنها قد تقيس التضخم نسبة إلى سنة سابقة كانت نفسها سنة تضخم مرتفع، فيبدو الرقم الحالي أقل حدة أو مطمئنا نسبيا، بينما يكون مستوى الأسعار الفعلي قد وصل إلى مستويات عالية جدا مقارنة بما كان عليه قبل عدة سنوات، وهو ما يفسر الفجوة الواضحة بين الأرقام الرسمية والشعور العام المستمر بغلاء المعيشة.

وغالبا ما يُقال إن التضخم "تراجع" أو "تباطأ"، بينما الحقيقة أن الأسعار لم تنخفض، بل توقفت فقط عن الارتفاع السريع، وبقيت عند مستويات مرتفعة تُثقل كاهل الأسر، لا سيما أصحاب الدخول الثابتة والمتقاعدين ومحدودي الدخل.

تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في طريقة قراءة التضخم، من خلال اقترحنا اعتماد مقياس إضافي لا يُلغي المؤشرات التقليدية، بل يُكملها ويعالج قصورها، ويقوم هذا المقياس على اعتماد سنة أساس ثابتة تُختار من فترة كان فيها الاقتصاد مستقرا نسبيا

ومن هنا تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في طريقة قراءة التضخم، من خلال اقترحنا اعتماد مقياس إضافي لا يُلغي المؤشرات التقليدية، بل يُكملها ويعالج قصورها، ويقوم هذا المقياس على اعتماد سنة أساس ثابتة تُختار من فترة كان فيها الاقتصاد مستقرا نسبيا، ثم تُقاس الأسعار اللاحقة باعتبارها نسبة إلى أسعار تلك السنة، بحيث لا يكون السؤال: كم ارتفعت الأسعار مقارنة بالعام الماضي فقط، بل كم ارتفعت منذ سنة الأساس وحتى اللحظة الراهنة. فعلى سبيل المثال، إذا اعتُمدت سنة2015  سنةَ أساس، فإن هذا المقياس لا يقيس الفرق بين سنتين متتاليتين، بل يُظهر مقدار الزيادة التراكمية في الأسعار خلال عقد كامل تقريبا، ويكشف حجم التآكل الحقيقي في القوة الشرائية للنقود، وهو ما ينسجم بدرجة أكبر مع تجربة الناس اليومية ومع إحساسهم الواقعي بكلفة المعيشة.

ويساعد هذا المؤشر التراكمي المقترح على تقديم قراءة أكثر عدلا ووضوحا لغلاء المعيشة، ويحدّ من التضليل الإحصائي الذي قد ينشأ عن التركيز على نسب قصيرة الأجل معزولة عن سياقها التاريخي، كما يتيح تقييما أدق للأجور، والمعاشات، ومستويات الدخل، والسياسات الاجتماعية، ويُعين صانعي القرار على إدراك الأثر طويل الأجل للتضخم بدل الاكتفاء بإشارات رقمية آنية.

إن المشكلة الحقيقية في قياس التضخم اليوم ليست في نقص البيانات، بل في زاوية النظر إلى هذه البيانات، وفي الاقتصار على مؤشرات قد تكون صحيحة حسابيا، لكنها ناقصة معيشيا، ولذلك فإن إدراج مقياس تراكمي طويل الأجل إلى جانب المقاييس التقليدية يُعد خطوة ضرورية نحو فهم أكثر توازنا وصدقا لواقع الأسعار، ويُعيد الاعتبار للبعد الإنساني والاجتماعي في التحليل الاقتصادي، فغاية القياس في النهاية ليست تحسين صورة الأرقام، بل التعبير العادل عن الواقع الذي يعيشه الناس بالفعل.

x.com/drdawaba
التعليقات (0)