يشهد 
لبنان في المرحلة
الراهنة حركة كثيفة للموفدين الدوليين والعرب، تعكس حجم الاهتمام الخارجي بالأزمة اللبنانية
وتعقيداتها السياسية والأمنية والاقتصادية. تأتي هذه التحركات في سياق 
ضغط متزايد لدفع
بيروت نحو خيارات محددة؛ تتراوح بين إعادة ترتيب الداخل عبر الإصلاحات ومركزة 
السلاح،
وبين دفعها إلى مسار تفاوضي مباشر مع 
إسرائيل تحت عنوان ضبط الحدود والاستقرار. غير
أن هذه التحركات، في ضوء هشاشة الوضع الداخلي، تنطوي على مخاطر عميقة على السيادة والوحدة
الوطنية مما يدفع للسؤال أليس القاعدة تقول: "عندما تكثر الطباخين تنتزع الطبخة"!
تتحرك الوفود الدبلوماسية
العربية والدولية في اتجاهين متوازيين، الأول أمني يركّز على تثبيت وقف النار في الجنوب
ومنع توسع الحرب إلى لبنان، مع الحديث الدائم حول حصرية السلاح، والثاني اقتصادي سياسي
يدعو إلى تنفيذ إصلاحات هيكلية في الإدارة المالية والقضائية كشرط أساسي لأي دعم خارجي.
إلا أن هذه الجهود، وإن اتخذت طابعا إنقاذيا، تخفي خلفها نية إعادة هندسة المشهد اللبناني
بما يتوافق مع المصالح الغربية والإسرائيلية، من خلال تقليص دور حزب الله وإعادة تعريف
مفهوم السيادة من منظور يمزج ما بين الأمني والوطني مع اعتبارات الشرق الأوسط الجديد
بعد طوفان الأقصى. وتاليا، تعمل واشنطن وتل أبيب بصورة منسقة لدفع لبنان نحو مفاوضات
مباشرة مع إسرائيل، متذرعتين بضرورة ترسيم الحدود البرية بعد إنجاز الترسيم البحري.
تتحرك الوفود الدبلوماسية العربية والدولية في اتجاهين متوازيين، الأول أمني يركّز على تثبيت وقف النار في الجنوب ومنع توسع الحرب إلى لبنان، مع الحديث الدائم حول حصرية السلاح، والثاني اقتصادي سياسي يدعو إلى تنفيذ إصلاحات هيكلية في الإدارة المالية والقضائية كشرط أساسي لأي دعم خارجي
وتعتبر إسرائيل أن
الدخول في مفاوضات مباشرة مع الحكومة اللبنانية يفتح الباب لتطبيع تدريجي في العلاقات،
ويضعف حجة السلاح غير الرسمي. أما واشنطن، فتستخدم المساعدات والضغط الاقتصادي وسيلة
لدفع بيروت إلى هذا المسار. وقد ترافقت هذه الضغوط مع تحذيرات من عمليات عسكرية إسرائيلية
إذا لم تتم الاستجابة لتلك الشروط، بعيدا عن توقيتها الذي على ما يبدو يعمل وفق الساعة
الإسرائيلية لنتنياهو حصرا، والمجتمع الدولي يبدو للساعة متفرجا أو ناقل رسائل بالحد
الأقصى.
وهنا تبدو الخطورة
لفرضية تقول إن فرض مفاوضات مباشرة في ظرف داخلي هش سيؤدي إلى شرعنة الانقسام الوطني،
وإلى تفكيك التوازنات الدقيقة التي حافظت على الحد الأدنى من الاستقرار. كما أن التفاوض
المباشر في غياب إجماع وطني سيُفسر كتنازل سياسي عن الثوابت الوطنية، وسيؤدي إلى استقطاب
داخلي حاد، وربما إلى صدامات داخلية. الأخطر أن هذه المفاوضات قد تُستخدم لتبرير تدخلات
عسكرية أو اقتصادية جديدة تحت عنوان "فرض السلام"، ما يعرّض لبنان لخطر التفجير
الداخلي وفقدان استقلالية قراره السياسي.
وهنا يتجلى البعد
السياسي، حيث يحضر غياب الثقة بين القوى الداخلية وتنازع الشرعيات. أما البعد الأمني
فيُظهر ازدواجية القرار بين الدولة والقوى المسلحة، في حين يعكس البعد الاقتصادي انهيار
البنية المالية مع دين عام تجاوز 95 مليار دولار وانكماش في الناتج المحلي بأكثر من
35 في المئة منذ عام 2019 وفق بيانات البنك الدولي. أما البعد الاجتماعي، فقد تفاقم
نتيجة البطالة التي تجاوزت 36 في المئة، والفقر الذي شمل أكثر من 80 في المئة من السكان
وفق تقديرات الأمم المتحدة لعام 2024، ما جعل أي هزّة جديدة كفيلة بانهيار النسيج الاجتماعي
بشكل كامل، وهنا الكارثة التي على الموفدين تلافي حصولها قبل فوات الأوان!
إن أي مخرج للأزمة
يجب أن ينطلق من رؤية لبنانية خالصة أو متجانسة مع حركة الموفدين تحت سقف اتفاق الطائف،
وتاليا يكون العنوان بمقاربة تفرض معها الرؤيةُ اللبنانية القالبَ والمضمون ضمن البوتقة
الدولية، بحيث ترفض الإملاءات وتتمسك بحق الدولة في بسط سلطتها تدريجيا ضمن توافق وطني.
إن تفادي الانزلاق إلى مفاوضات مباشرة بلا ضمانات أو غطاء عربي جامع هو التحدي الأهم في المرحلة المقبلة، لأن أي تنازل في هذا الاتجاه قد يفتح الباب أمام إعادة رسم الخريطة اللبنانية بقرار خارجي، وهو ما يشكل الخطر الأكبر على مستقبل الدولة والوطن
من ثم يمكن للبنان أن يعتمد سياسة التدرج في ضبط السلاح عبر مراحل تراعي التوازن الداخلي
وتحفظ حق المقاومة لكل اللبنانيين في الدفاع ضمن إطار الدولة. كما أن الدعم الدولي
ينبغي أن يُربط بضمانات تحمي السيادة، لا بشروط سياسية تمسها. ويمكن للبنان أن يقبل
بوساطة متعددة الأطراف في الملفات التقنية (كالحدود البحرية والبرية)، دون الانجرار
إلى مفاوضات سياسية شاملة لا يملك فيها توازن القوة، خاصة بعد كل ما جرى في لبنان وفلسطين
والمنطقة بعد السابع من أكتوبر.
وعليه، وفي حال استمرار
الضغوط الأمريكية الإسرائيلية، ستبقى احتمالات التصعيد قائمة، خصوصا إذا استُخدم ملف
الحدود ذريعة لتوتير الجبهة الجنوبية. أما إذا نجح لبنان في تثبيت معادلة الردع المستندة
الى الشرعية الدولية التي آن لها أن تستيقظ من سباتها العميق وعبر التمسك بالحلول الداخلية
والإصلاحية، فقد يتمكن من حماية استقراره وتحصين موقفه التفاوضي. وهنا أيضا يحتاج الى
الالتفاف العربي حوله بما يخدم لبنان والاجندة العربية الجديدة. ويبقى أن الرهان الحقيقي
هو على وحدة الموقف الداخلي، لأنها وحدها الكفيلة بإفشال محاولات فرض مسارات لا تعبّر
عن الإرادة الوطنية.
لبنان مع كثرة الموفدين
والطباخين لم يعُد له حتى اللحظة الطبق الملائم ولا زالت الكواليس السياسية تتحدث عن
طبخة مالحة! وعليه تراه يقف اليوم عند مفترق طرق تاريخي، بين مسار الخضوع للضغوط الخارجية
تحت شعار الإصلاح، ومسار التماسك الوطني القائم على الإصلاح الحقيقي والسيادة. إن تفادي
الانزلاق إلى مفاوضات مباشرة بلا ضمانات أو غطاء عربي جامع هو التحدي الأهم في المرحلة
المقبلة، لأن أي تنازل في هذا الاتجاه قد يفتح الباب أمام إعادة رسم الخريطة اللبنانية
بقرار خارجي، وهو ما يشكل الخطر الأكبر على مستقبل الدولة والوطن.