قضايا وآراء

ترامب في الأمم المتحدة.. زعيم العالم الحر أم بائع أوهام؟

سمير الخالدي
إن خطاب ترامب في الأمم المتحدة لم يكن سوى مرآة تعكس تناقضاته وفشله، محاولة يائسة لتضليل الرأي العام، وتسويق أوهام لا أساس لها. (الأمم المتحدة)
إن خطاب ترامب في الأمم المتحدة لم يكن سوى مرآة تعكس تناقضاته وفشله، محاولة يائسة لتضليل الرأي العام، وتسويق أوهام لا أساس لها. (الأمم المتحدة)
لم يكن خطاب دونالد ترامب أمام الأمم المتحدة سوى مشهد صاخب يعكس ذهنية قائمة على الخداع وتزييف الحقائق، أكثر من كونه رؤية متماسكة يقدمها رئيس دولة يفترض أن يقود بلداً يعتبر نفسه "زعيم العالم الحر". منذ اللحظة الأولى كان واضحاً أن خطابه ليس موجهاً إلى العالم بقدر ما هو محاولة لاستمالة جمهوره الداخلي، مستخدماً خطاباً مليئاً بالكراهية والتناقضات والأكاذيب.

ترامب اتهم الأمم المتحدة بتمويل ما أسماه "العدوان على أوروبا" عبر تقديم المساعدات للمهاجرين. هذا الاتهام ليس فقط بلا دليل بل يتناقض مع تقارير رسمية للأمم المتحدة نفسها، التي تؤكد أن أكثر من 70% من ميزانية المفوضية السامية لشؤون اللاجئين تذهب لتوفير الغذاء، والمأوى، والرعاية الطبية للنازحين، معظمهم ضحايا حروب أشعلتها تدخلات القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان وليبيا. تحويل المساعدات الإنسانية إلى "عدوان" هو قمة الوقاحة السياسية، إذ إن واشنطن نفسها أكبر مساهم في تفجير موجات الهجرة عبر تدخلاتها العسكرية ودعمها للأنظمة القمعية.

الأكثر عبثية في خطابه كان حين قال إن لندن "تغيّرت كثيراً وستعتمد قريباً الشريعة الإسلامية بسبب عمدتها الفظيع". هذه ليست فقط كذبة، بل خطاب كراهية صريح يعكس عقلية الإسلاموفوبيا. لا يوجد أي تقرير حكومي بريطاني أو دراسة جادة تقول ذلك. بل إن هذا الكلام أقرب إلى منشورات المتطرفين في مواقع المؤامرة، لا إلى خطاب رئيس أكبر دولة في العالم.
أما حديثه عن أوروبا التي "تموّل الحرب على نفسها بشراء الغاز الروسي"، فهو محاولة مكشوفة لتسويق الغاز الأمريكي المسال كبديل، لا أكثر. تقارير وكالة الطاقة الدولية تؤكد أن الولايات المتحدة منذ 2018 كثّفت ضغوطها على الاتحاد الأوروبي لتقليص اعتماده على الغاز الروسي واستبداله بالغاز الأمريكي الأغلى ثمناً. فترامب لم يكن حامياً لأوروبا كما زعم، بل تاجراً يبحث عن أسواق لمنتجات بلاده الطاقية، متخفياً وراء شعارات “الأمن القومي”. المفارقة أن بلاده نفسها لم تتوقف يوماً عن شراء النفط من مناطق نزاع أو عن بيع السلاح إلى أنظمة تنتهك حقوق الإنسان، ما يجعل خطابه فارغاً من أي مصداقية.

وزعمه أنه "أوقف سبع حروب منها حربان استمرتا ثلاثين عاماً" يدخل في باب الأساطير. تقرير معهد ستوكهولم لأبحاث السلام لعام 2020 يؤكد أن العالم لم يشهد خلال فترة ولايته أي انخفاض حقيقي في النزاعات المسلحة، بل على العكس: تصاعدت التوترات في الخليج، شهدت سوريا تصعيداً مستمراً، واستمر النزاع في اليمن دون أي دور أمريكي جاد لوقفه. أما الانسحاب من أفغانستان، الذي يحاول نسب الفضل فيه لنفسه، فقد تم بطريقة فوضوية خلّفت وراءها كارثة إنسانية وأمنية، وأعادت طالبان إلى السلطة بعد عقدين من الاحتلال الأمريكي. فأي “سبع حروب” أوقفها ترامب؟ إنه اختراع مكشوف لا يسنده أي واقع.

أما بشأن غزة، فقد تباكى ترامب قائلاً إن بلاده بذلت جهوداً لوقف الحرب، لكن "حماس رفضت المبادرات". الحقيقة أن الولايات المتحدة خلال ولايته كانت العائق الأكبر أمام أي قرار ملزم في مجلس الأمن لوقف إطلاق النار. وثائق الجلسات المسجلة في 2018 و2019 تثبت أن واشنطن استخدمت حق النقض (الفيتو) مراراً لحماية إسرائيل من أي مساءلة. إذاً، عن أي جهود يتحدث؟ عن إرسال السلاح والقنابل الذكية إلى تل أبيب؟ أم عن شرعنة نقل السفارة الأمريكية إلى القدس في انتهاك صارخ للقانون الدولي؟ الحقيقة أن إدارته لم تكن وسيطاً للسلام بل شريكاً كاملاً في استمرار العدوان.

الأكثر عبثية في خطابه كان حين قال إن لندن "تغيّرت كثيراً وستعتمد قريباً الشريعة الإسلامية بسبب عمدتها الفظيع". هذه ليست فقط كذبة، بل خطاب كراهية صريح يعكس عقلية الإسلاموفوبيا. لا يوجد أي تقرير حكومي بريطاني أو دراسة جادة تقول ذلك. بل إن هذا الكلام أقرب إلى منشورات المتطرفين في مواقع المؤامرة، لا إلى خطاب رئيس أكبر دولة في العالم.

ترامب أيضاً برر "حق الدول" في وقف تدفق المهاجرين على أساس الدين والثقافة. هذه ليست سوى دعوة للتمييز العنصري بأوضح صوره. القانون الدولي واتفاقيات حقوق الإنسان لعام 1951 و1967 تضمن حق اللاجئ في الحماية بصرف النظر عن دينه أو عرقه. ومع ذلك، وقف ترامب في منبر الأمم المتحدة ليضرب عرض الحائط بكل هذه المبادئ التي كانت بلاده من أوائل الموقعين عليها.

وحين وصل إلى موضوع الطاقة، كشف ولاءه الصريح لشركات النفط حين وصف الطاقة الخضراء بأنها "خديعة". في الوقت الذي تشير فيه تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ إلى أن العالم أمام عقد حاسم لإنقاذ الكوكب من كارثة مناخية، يأتي ترامب ليقف في صف أرباح الشركات على حساب مستقبل الإنسانية. الاتحاد الأوروبي استثمر مئات المليارات في التحول الأخضر، بينما إدارة ترامب انسحبت من اتفاقية باريس للمناخ ورفضت حتى الاعتراف بخطورة الاحتباس الحراري. أي زعامة عالمية هذه التي تنكر العلم من أجل إرضاء لوبيات الوقود الأحفوري؟

المفارقة الكبرى كانت ختام خطابه بشعار "لنعمل معاً للدفاع عن حرية التعبير". هذا من الرجل الذي وصف الصحافة المستقلة بـ”عدو الشعب”، وسعى إلى تقييد عمل وسائل الإعلام التي تنتقده، وهدد منصات التواصل الاجتماعي حين حذفت منشوراته الكاذبة عن الانتخابات. أي حرية تعبير يدعو إليها؟ إنها حرية الكذب والدعاية العنصرية، لا غير.

إن خطاب ترامب في الأمم المتحدة لم يكن سوى مرآة تعكس تناقضاته وفشله، محاولة يائسة لتضليل الرأي العام، وتسويق أوهام لا أساس لها. أراد أن يظهر بمظهر القائد الحامي للعالم، فإذا به يكشف نفسه كرمز للعنصرية، وخادم مطيع لشركات النفط والسلاح، وشريك كامل في سياسات الاحتلال والقمع. لقد حوّل منبراً دولياً يفترض أن يكون صوتاً للإنسانية إلى منصة دعاية انتخابية رخيصة. العالم لا يحتاج إلى خطابات كهذه، بل إلى قادة يمتلكون الشجاعة ليقولوا الحقيقة، ويضعوا مصلحة البشر فوق أرباح الشركات وأوهام الهيمنة.
التعليقات (0)

خبر عاجل