يشيع لدى
البعض أن
مناهج التفكير هي تأليف غربي خالص؛ خاصة حينما يتحدثون عن صنوف التفكير المختلفة
وعن علوم المنطق التي نشأت في الحضارة اليونانية، ولكننا نعتقد أن هذا يشكل تحيزا كبيرا
حينما ينظر إلى الفكر الإسلامي باعتباره فكرا غير أصيل، أي أنه يستمد بعض عناصره المنطقية
والعقلانية من أصول الحضارة الغربية؛ خاصة حينما تجد في ذلك الاهتمام بالفلسفة اليونانية
لدى سقراط وأفلاطون وأرسطو. وفي حقيقة الأمر فإنه من الواجب علينا أن لا نغمض حق هذا
التفكير الغربي في الكتابة في هذا الشأن الذي يتعلق بمناهج التفكير وعلم المنطق، إلا
أن ذلك لا يمكن أن يكون أو يمثل مصادرة لإسهامات حضارية أخرى وعلى رأسها الحضارة الإسلامية.
فعلى سبيل
المثال، نستطيع أن نقول إن القياس المنطقي لدى منطق أرسطو عبر عن قياس شكلاني، ولكن
في الحقيقة فإن التأليف الإسلامي كان عميقا ومثّل إسهاما مركبا وجديدا في مفهوم القياس
وتفعيله في إطار بابين متكاملين؛ باب متعلق بالأسباب ومقدماتها، وباب آخر يرتبط بالأصول
القيمية، ذلك أن الإيمان بالأسباب لم يمنع المسلمين بأي حال من الأحوال من التأكيد
على مساحات الإيمان والقيم، فأخرجوا القياس من أبعاده المنطقية الجافة إلى آفاقه المنهاجية
والقيمية والإيمانية؛ فجمع بين كل ذلك جمعا متوازنا جميلا.
الايمان بالأسباب لم يكن مانعا بأي حال من الأحوال من الإيمان بالغيب وبالتوحيد الإلهي وبالقدرة الإلهية ومشيئتها وبالقضاء والقدر، وبأمور غاية في الأهمية تتعلق بالقيم حينما تجعل المنطق عملية منهاجية وعقلية وإيمانية، فالأخذ بالأسباب واجب والولع بها مرفوض، وإثبات الاختيار الإنساني لا ينافي المقدرة الإلهية والقدرة الإلهية
إن الإمام
ابن تيمية في نقده للمنطق كان يشير إلى هذا المعنى الإيماني، وكان يشير إلى هؤلاء الذين
يولعون بتفسير السببية الصلبة على حد تعبيرنا الأستاذ المرحوم الدكتور عبد الوهاب المسيري،
ولكن السببية والبحث في العلل والوقوف عليها كان من المباحث المهمة في القياس الإسلامي.
ومن هنا
فإننا نؤكد على أن الايمان بالأسباب لم يكن مانعا بأي حال من الأحوال من الإيمان بالغيب
وبالتوحيد الإلهي وبالقدرة الإلهية ومشيئتها وبالقضاء والقدر، وبأمور غاية في الأهمية
تتعلق بالقيم حينما تجعل المنطق عملية منهاجية وعقلية وإيمانية، فالأخذ بالأسباب واجب
والولع بها مرفوض، وإثبات الاختيار الإنساني لا ينافي المقدرة الإلهية والقدرة الإلهية،
وقدر الله لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يصادر الأخذ بالأسباب، وكذلك التعويل على
الفعل الإنساني وعيا وسعيا واختيارا.
ومن هنا
سنرى أن هناك إسهامات إسلامية في مناهج التفكير خاصة في مستوياته العليا. نأتي على
ذكر بعض هذه المناهج ثم نتناولها ببعض من الإشارة الإجمالية التي تستحق منا بعد ذلك
دراسة متأنية للربط بين تلك المناهج والرباعية التي أشرنا لها سابقا، أي العلاقة بين
مناهج التفكير ومناهج البحث ومناهج التغيير ومناهج الفاعلية والتأثير. إننا أمام
منظومة المناهج الإسلامية التي تشكل مدخلا أصيلا ويمكن أن تسهم إسهاما فاعلا في
رؤية مشروع الانبعاث الحضاري.
وكان من
ضمن تلك المناهج المهمة التي يجب أن نشير بها في هذا المقام ما يتعلق بالتفكير المقاصدي
والتفكير المصلحي والتفكير السنني والتفكير بالضرورة والضرر والتفكير المناطي والتفكير
المآلي والتفكير التنزيلي والتفكير السنني والتفكير السفني، فضلا عن كل العناصر التي
تتعلق بضبط العلاقات بين رؤى معينة لمناهج تفكير من دون أن تفقد أفقها الإيماني والقيمي.
وفي هذا الإطار فإن البحث في توليد أنماط الأفكار في الرؤية الإسلامية إنما يعتبر مدخلا
غاية في الأهمية؛ حينما نربط بين المدخل المقاصدي وتوليد أنماط تفكير والمدخل السنني
والسفني وتوليد أنماط أخرى من مناهج التفكير، وكذلك التفكير والمفاهيم البصرية من خلال
الأمثال القرآنية والنبوية.
ومن هنا،
فإن تلك الأنماط من التفكير ترتبط لزوما بمسالك من التربية، وتحاول من خلال مفاهيم
معينة أن تربط بين المساحتين في رؤية منهاجية إيمانية تربوية قيمية. ولعله في هذا المقام
نشير إلى إشارات مهمة وإلى إيحاءات وإيماءات غاية في الأهمية؛ حينما نربط بين أنماط
التفكير التوحيدي والتربوية التوحيدية، والتربية بالآيات، والتربية بالعبرة، والتربية
بالحوار وإدارة الاختلاف والتنوع، والتربية في سياق الانتماء المتنوع ودوائر الانتماء
المتحاضنة، والتربية بالأمثال، والتربية بالقصص، والتربية بالمقاصد، والتربية السفنية،
والتربية بالسنن والأخذ بالأسباب، والتربية بالتفاعل والتعامل مع الأزمات ومواجهة التحديات
ومعرفة مصادر المنحة في المحنة والفرصة في الخطر والمواجهة الإيجابية للضرر، وهو أمر
يتعلق بسنن الخروج والتربية عليها، "وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا
لَهُ عُدَّةً" (التوبة: 46). وكذلك فإن هناك التربية بالنداءات الحركية، خاصة
أن الخطاب القرآني حافل بكثير من تلك النداءات والتربية بالنماذج والتربية بالمحاكاة
والقدوة والتربية بالمواقف والأحداث والعبرة؛ "وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ"
(إبراهيم: 5)، والتربية الكدحية؛ "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ
رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ" (الانشقاق: 6)، والتربية الاقتحامية؛ "فَلَا
اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۞ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ" (البلد:11-12).
وكذلك
التربية بالتكليف والتربية بالفرض العيني والكفائي والعمل الجماعي، والتربية بالاجتهاد
الواسع والتجديد الفاعل، والتربية بالمسؤولية والمساءلة والفاعلية، والتربية بالخطأ
وحركة التوبة، والتربية بالأمانة؛ مثلما أشار ابن تيمية في السياسة الشرعية في إصلاح
الراعي والرعية، والتربية بالنعمة؛ مثلما أشار إلى ذلك السبكي في "معيد النعم
ومبيد النقم"، والتربية بين الفطرة والتقوى؛ والتربية بالقيم؛ والتربية على تهميش
السلطة والقوة، والتربية بالقراءة، والتربية الابتلائية، والتربية والقابلية، والتربية
بالتدافعية والدافعية، والتربية على الوعي بالإمكانية لبلوغ التمكين، والتربية بالإصلاح،
والتربية المستقبلية والمآلية، والتربية المؤسسية، والتربية التعاونية، والتربية الإدراكية
والمفاهيمية، والتربية بالتدبير والتدبر، والتربية الإنمائية والاحسانية، والتربية
الرحمانية، والتربية العبادية، والتربية بالحفظ وتحري مسالكه، والتربية بالحصانة والمناعة،
والتربية بالنقد وعلى النقد والمراجعة، والتربية الجهادية؛ "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا
فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا" (العنكبوت:69)، والتربية الوقائية من القوم
البور وقسوة القلوب وطول الأمد والإخلاد إلى الأرض، والتربية الجمالية والإتقانية والإحسانية،
والتربية بالمنهج والبحث والتحقق والتبين، والتربية الوقفية؛ أنماط عديدة من التربية
تفوق الحصر والعد، وهي من الأنماط التي يجب أن نهتم بها حتى نربط بين مناهج التفكير
فيها ومناهج البحث منها والمناهج التغييرية الملازمة لها ومناهج الفاعلية والتأثير؛
حتى يكون لذلك ثورة تعبر عن حالة من حالات الإحسان والتمكين الحضاري.
وفي هذا
المقام ربما نتوقف عند الرؤية المقاصدية في مسألة التفكير في إطار تلك العشرية التي
أكدنا عليها والتي استُقيت من مدخل المقاصد الذي بلوره الإمام الشاطبي، فالتفكير لا
بد له من مقدمات ومقومات، كما أنه يرتبط بمجالات ونشاطات ويرتبط بحفظ وأوعية وأدوات،
ويرتبط أيضا بالتفكير في الأولويات، وكذلك التفكير الموازيني والتفكير في المناطات،
والتفكير في الواقع وطرائق وصفه والتفاعل معه والتعرف على عناصره في إطار العلاقة بين
الواجب والواقع؛ كما أشار إلى ذلك الإمام ابن القيم، والتفكير في المآلات، والتفكير
في الوسائل والآليات، والتفكير في الوسط الحاضر والسياقات، والتفكير بالقيم السارية
التي تشكل روحا فاعلة للمقاصد.
ومن هنا
وفي تلك العشرية، فإننا أمام مناهج تفكير عدة ومنظومات تفكير عليا وقدرات إيجابية في
التفكير ومهارات كلية في التفكير، بل إن المسألة التي تتعلق بالتفكير في الواجب الكلي
قد أشار إليها الإمام القرافي في الفروق، فربط الواجب بكل الأدوات وحروف الجر المختلفة؛
فإن التفكير باعتباره وجوبا يجب التفكير منه وفيه وإليه وله وعليه ومعه وعنده وبه.
إننا بذلك
يمكن أن نؤكد أن المدخل المقاصدي ومكوناته إنما يشكل استراتيجية عامة كلية في التفكير
والتدبير، ويمكن أن تفرز أدوات منهاجية ومسالك بحثية، ويمكن أن تقدم دراسات علمية ومنهاجية
للظواهر الإنسانية والاجتماعية.
إن مناهج التفكير في الرؤية الإسلامية في بناء الرؤية النهضوية وقدرات مشروع الانبعاث الحضاري؛ تسهم في التعامل مع مشاتل التغيير في الآن والاستقبال، في التدبير والمآل وهي مقدمات في الطريق إلى الانبعاث والنهوض
أما عن
التفكير السنني والرؤية السننية فإنها في حقيقة الأمر تشكل ضبطا لقضايا التفكير في
مسألتي السببية والبحث المستقبلي، وهو أمر في حاجة إلى أن نكتب فيه كتابة متأنية نواجه
فيها أنماط التفكير والتدبير التي تقوم على الخرافة أو التفسير المؤمراتي، أو أنماط
أخرى من أنماط التفكير العليلة والكليلة، كذلك تلك الرؤية السننية في مسألة التفكير،
وهو أمر يعبر عن مداخل للتفكير المتكامل؛ يبدأ بالسفينة عند صناعتها مرورا بمهمتها
وابحارها، وصولا إلى مينائها ومرفأ أمانها.
ومن هنا
فإن منطق التفكير السفني إنما يعبر عن مهارات للتفكير العليا؛ نستطيع أن نفصل فيها
في هذا السياق. وأكثر من ذلك فإن من مهارات التفكير التي يمكن أن تأتي من خلال تلك
الرؤية الإسلامية أمر يتعلق بنوع من التفكير النماذجي، هذا النوع من التفكير إنما يرتبط
بالأمثال كنماذج والنماذج المتعددة، سواء كانت نماذج فكرية أو مؤسسية أو تاريخية أو
تلك الأمثال التي تضرب في هذا المقام فتقدم رؤى منفتحة للتعامل مع تلك الظواهر من خلال
هذا التفكير والتفسير النماذجي. نظن أن حديث السفينة يشكل قاعدة مهمة في هذا المقام.
ومن ثم
سنشير إلى بعض هذه المناهج، بل ونؤكد أن الحضارة الإسلامية في نماذجها التفكيرية وأصولها
المعرفية ورؤيتها للعالم تقدم بدورها ويشتق من صياغها مناهج تفكير على أرضية المعرفة
الإسلامية وإسهامها في هذا المجال، ومن ثم من المهم أن نشير إلى حزمة من مناهج التفكير
ترتبط بالرؤية الإسلامية، وهي ليست ببعيدة عن الإشارة إلى مداخل منهاجية وبحثية مثل
المدخل المقاصدي والمدخل السنني والمدخل السفني والمدخل الكفائي والمدخل الفروقي، وأيضا
المدخل العمراني ومدخل القياس ضمن منظوره الإسلامي، هذه جميعا تولد مناهج وأنماط للتفكير
يمكن أن نشير إليها؛ لا تقل أهمية عن مستويات التفكير العليا في هذا المقام.
إن
مناهج التفكير في الرؤية الإسلامية في بناء الرؤية النهضوية وقدرات مشروع الانبعاث
الحضاري؛ تسهم في التعامل مع مشاتل التغيير في الآن والاستقبال، في التدبير والمآل
وهي مقدمات في الطريق إلى الانبعاث والنهوض.
x.com/Saif_abdelfatah