في زنزانة ضيّقة على قمّة جبل الكرمل، خلف أبواب حديدية ورطوبة عالية، تخيط الأسيرات الفلسطينيات تنانير الصلاة من شراشف قديمة. يقطعنها دون مقصّ، ويحوّلنها بخيط رفيع إلى زيّ يُسترن به في صلواتهن. هذا ما يسمّينه، بسخرية لاذعة: "صناعة الدامون الوطنيّة".
ليست هذه التنانير سوى تفصيل صغير في مشهد يومي من الحياة الصّعبة التي يعايشونها قسرا؛ إذ أنّ صابونتان صغيرتان توزّعان أسبوعيا على سبع نساء. لا تهوية، لا ملابس داخلية كافية، ولا فوط صحيّة. أماّ بالنسبة إلى الأكل فهو بارد وقليل جدا، يُقدّم أحيانا في أطباق ملطّخة برائحة القمامة.
لكن، وسط كل هذا، تنجح ميسون، الأم لسبعة أبناء، في تنظيم حفلة "حنّة" صغيرة لابنتها سماء، وتبكي بشرى على فستان زفاف لم تُتح له فرصة أن يُلبس. تتكاثر القصص، الرسائل، الغصّات، وأيضا بعض النّكات. إذ أنّ الأسيرات يكتبن بعيونهنّ، ومن خلف القضبان، سيرة نضال ناعم وصلب في آن واحد.
في هذا التقرير، تبرز "عربي21" كيف تحاول الأسيرات صُنع حياة داخل جدران السجن القاسية، رغم الظروف غير الإنسانية؛ وكيف تتحوّل الخردة (شرشف/ فستان قديم) إلى تنّورة صلاة، والزنازين إلى أماكن للأفراح المؤقتة، كاحتفال ميسون بخطوبة ابنتها، أو بكاء بشرى على فستان زفاف لم يُرتدَ.
ميسون..
يقول المحامي الفلسطيني، حسن عبادي: "زرت عصر اليوم
سجن الدامون في أعالي الكرمل السليب، لألتقي بالأسيرة ميسون محمود مشارقة (مواليد 28.03.1971) من الخليل، (مالكة روضة أطفال، جيل 4-5 سنوات)، أم ل-7 أولاد؛ محمود، يزيد (طالب ماجستير علاج طبيعي/ مصر)، نديم (طالب طب بشري/ مصر)، زيد (اشتقتله، زعلانة عليه لأنه راحت عليّ مناقشة تخرّجه/ حقوق)، هادي، يحيى وزينة".
عبادي، الذي يدوّن زياراته للأسيرات على حسابه بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" يتابع بالقول: "أوصلتها سلامات الأهل وأختها سلام (زينة الحمد لله بخير اشترينا الها فستان لعرس سماء يوم الخميس، ما شاء الله أميرة، عدم وجودك يدمي القلب)، دمعت دموع فرح وعقّبت: ألف مبروك لسماء ونضال، الليلة رايحات نعمل حفلة بالغرفة ونغنّي للحنّة".
"سلام لأختي سلام وأولادها وميسر وأختي فوزية ولإمي: بعتذر منها ع القلق اللي عيّشتها إياه بحبِستي...عمرها 98 سنة)" تابعت ميسون، وفقا لما أورده المحامي الفلسطيني، متابعا على لسانها: "مشتاقة لزوجي كثير وإنشالله بنجتمع قريب، دايماً بدعيلو... ولولادي كلهم، واشتقت لكلمة زينة حياتي: ماما احضنيني وأنت ساكتة".
وأبرزت ميسون بلهجتها المحلّية: "اعتقلوني يوم 02.04.25، بعد التحقيق فكّرت حالي مروّحة، كريات أربع، المسكوبية 42 يوم (منهم 22 يوم عزل انفرادي والباقي مع زهراء ولينا)، الشارون ليلة، والدامون".
إلى ذلك، أوضح المحامي نفسه، بأنّ الأسيرات بتن يقهرن من معاناتهم بالحساسية، والحبوب المنتاثر على أجسامهنّ، حيث إنّ الباب يظل مغلقا، والغرف صغيرة ومختنقة، وهناك فقط صابونتين صغيرتين (صابون فنادق) بالأسبوع، مخصّصة لغرفة تشمل 7 بنات؛ ناهيك على انعدام الفوط الصحيّة الكافية للبنات، مع نقص كبير في ملابس داخليّة.
طلبت ميسون، من المحامي، إيصال سلامها ورسائل لأهالي الأسيرات زهراء، بالقول: "حنين جابر، كرم موسى (شو أخبار حفيدتا كِندة؟)، سالي، كرمل، هناء، لينا مسك (هل تجهيز التوأم ومستلزماتهم عليها ولّا تسميتهم؟)، ميسر هديبات، ميرفت سرحان/ غزة (شو وضع أهلها؟)"، لينا وزوز (سلامات لجدّتها وبنتها توتو وولادها وزوجها)، وسماح صوف".
وختمت بالقول: "سلّم على الكلّ، وللترويحة خلّي جوزي يجيب لبس لكلّ البنات، وشالات، وأهالي بنات الخليل يكونوا مع بعض. خلّيه يبلّغني شو بصير بجلسة 29 الشهر، ما يخلّيني بالهوى، صعب عليّ ما أعرف".
يشار إلى أن: ما يعرف داخل السّجن بـ"العزل الانفرادي" لـ22 يوما يندرج ضمن أساليب الضغط النفسي التي وثّقتها عدّة منظمات حقوقية، وهو إجراء غير قانوني دوليًا، عندما يُستخدم ضد مدنيات دون أي تُهم واضحة.
اظهار أخبار متعلقة
"عروس الدامون"
عبر منشور آخر، أورد عبادي، الذي كان قد انطلق في التواصل مع الأسرى الفلسطينيين، خلال شهر حزيران/ يونيو 2019، عبر مبادرة شخصية تطوّعية: "زرت عصر اليوم سجن الدامون في أعالي الكرمل السليب لألتقي للمرة الثانية بالأسيرة بشرى أديب قواريق (مواليد 08.05.2005)، من قرية عورتا، مباشرة بعد لقائي بإيمان".
وتابع: "بعد فك الكلبشات والتحية قالت بانفعال: الوضع هون مش طبيعي. طيارة (درور) بتحوم فوق السجن وبتصوّر كل الوقت. الكلبَشِة ع الطالع والنازل. شكلهم بحضّروا لقمعة قويّة؟. صحّلي نصيب بالقمعة الكبيرة".
ويقول المحامي: "ضحكت حين أخبرتها رسالة خطيبها "جبتلك فستان فوشي للترويحه بدل اللي أخذوه، رح تحبيه كثير، وكبستلك مخلل خيار وجزر ودوالي، ورجعت أشتغل عند أبو العبد بحوارة"، مردفا: "حبّيت لما كتبِت عني "عروس الدامون" ونفسي أطلع وأشوف شو كتبت، وهيك كمان كلّ البنات".
"طلبت إيصال رسائل الصبايا "أحسن ما ياخذنا الوقت"؛ سماح حجاوي (خطيبي مروّح بكرا؟)، تسنيم عودة (جدّدولي الرخصة بشهر 9، خلّفت أختي؟)، ماسة غزال (سلامات، وشو مع أخوي مؤمن؟)، كرمل (مين طلع غير أبو معروف؟)، شهد دراوشة (سلامات لأهلي ومشتاقة كثير)، لين مسك (ما يساوو عقيقة تا أروّح)، سيرسن، بنان، فداء، شاتيلا وآية"، وفقا لما جاء على لسان الأسيرة بشرى.
واسترسلت: "مشتاقة لأهلي وبحبهم، للبابا أزود واحد (مين بروح معه ع الفحوصات؟، كل فرحة يعقوب بيوسف أن تمرّ بنا)، جيبولي أواعي ترويحه حلوة، انشالله بعوضهم على كل شي بس أطلع. مشتاقة لخواتي وفنجان قهوة معهن. محوّشه كوم أخبار. سلّم على دار عمّي. بحبّهم كثير. ومشتاقة كثير لخطيبي وليد، وبنفسي أشوفه أول واحد بالاستقبال".
وأضافت: "الوضع في سجن الدامون سيئ؛ معنا كلنا حساسيّة وحَبّ، أخذوا أسيرة جولة 3 أيام كلها ضرب واستعراض وبدون تحقيق. تأقلمنا، شايف الفرق بين الزيارتين؟ ما نجحوا يكسرونا ويحطمونا".
تجدر الإشارة إلى أنّ بشرى ليست حالة فردية؛ بل هي واحدة من عشرات الفتيات اللواتي اعتُقلن بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر بتُهم فضفاضة أو بدون محاكمة واضحة.
أكثر من تفاصيل يومية..
ما يجري داخل سجن الدامون ليس مجرد تفاصيل "يومية" عابرة في حياة أسيرات، بل هو نمط حياة قسري يضرب عرض الحائط بكافة القوانين والمواثيق الدولية المرتبطة بحقوق الإنسان. من نقص الفوط الصحية والملابس الداخلية إلى التفتيشات الليلية والمراقبة بالكاميرات، إذ أنّ كل تفصيل يشكّل انتهاكا صارخا موثّقا للقوانين الدولية.
وفي سياق متصل، كشفت هيئة شؤون الأسرى والمحررين، الاثنين، عن شهادة مؤثرة للأسيرة انتصار العواودة (52 عاما)، أوضحت تفاصيل الانتهاكات القاسية وغير الإنسانية التي تعانيها الأسيرات الفلسطينيات في قلب سجون الاحتلال الإسرائيلي.
ونقلت الهيئة هذه الشهادة، عبر محامية أخرى، قد زارت الأسيرة العواودة في سجن الدامون، وثّقت أيضا الظروف المأساوية منذ لحظة اعتقالها في 13 أيار/ مايو الماضي، حيث داهمت قوات الاحتلال منزلها في بلدة كارما بالخليل بالضفة الغربية المحتلة، وقامت بمُصادرة مقتنياتها واعتقلتها دون السماح لها حتّى بتغيير ملابسها.
تضيف العواودة أنها تعرضت لانتهاكات بدنية ولفظية من دفع وإهانة، خلال نقلها إلى سيارة جيب عسكري، ثم نحو مركز تحقيق "المسكوبية"، حيث قضت في ظروف الاحتجاز "لا تصلح للعيش الآدمي"، 22 يوما في زنزانة معتمة، وتفتيش جسدي عارٍ، بالإضافة إلى عدم توفّر مياه صالحة للشرب".
اظهار أخبار متعلقة
بعد ذلك، نقلت الأسيرة، بحسب الهيئة، إلى "معبر الشارون"، وهو الذي لم يختلف كثيرا ووصفته بأنه: "يعجّ بالقذارة والروائح الكريهة، فضلا عن تردي نوعية الطعام وقلة كميته"، مشيرة إلى واقعة أحضر فيها السجان "طبقا قذرا" لتقديم الأرز، فرفضت العواودة تناوله.
وتتحدث العواودة عن ظروف الاحتجاز في سجن الدامون، حيث يجري اعتقالها حاليا، وقالت إنّ: "السجن يفتقر إلى التهوية الطبيعية، وتزداد فيه الرطوبة والحرارة بشكل كبير، خاصة بعد مصادرة الاحتلال للمراوح والأدوات الكهربائية"، مضيفة: "تقتصر "الفورة" (وقت خروج الأسيرات لساحة السجن) على نصف ساعة يوميا، وقد تختزل إلى ربع ساعة، وفقا لمزاج السجانة، وهو ما لا يكفي للاستحمام أو غسل الملابس".
آلاف من الأسرى.. وجع صارخ
بحسب بيان مشترك لعدّة مؤسسات مختصة بشؤون الأسرى، من قبيل: نادي الأسير وهيئة الأسرى، بمناسبة يوم الأسير، في نيسان/ أبريل الماضي، فإنّ: "الاحتلال يعتقل في سجونه أكثر من 9900 أسير وأسيرة ممن تعرف هوياتهم يقبعون في 27 سجنا ومركز تحقيق أو توقيف، تضاف إليهم أعداد أخرى تقدر بالآلاف لأسرى من
قطاع غزة رهن:
الإخفاء القسري".
ومن بين المعتقلين حاليا 29 أسيرة، و400 طفل تقل أعمارهم عن 18 عاما، وما يُناهز 3500 معتقل إداري بذريعة وجود ملف سري، غالبيتهم أسرى سابقون، من بينهم 4 أسيرات، وأكثر من 100 طفل.