الصحافة الميدانية أخطر أجناس الصحافة. بمعنييْ الخطر: بما هو أهمية وقيمة (فرادة الشهادة التي يشهدها الصحافي) وبما هو تعرّض للمخاطر و«طريق الأذى» (مهالك العمل التي تُحْدق بالصحافي).
وأخطر ما يكون هذا الخطر الملازم للصحافة الميدانية ليس عندما تسود الميدان وقائع انتخابات أو ثورات أو كوارث طبيعية، وإنما عندما يكون ساحة حرب. إذ يظهر التاريخ العسكري، علما أن الصحافيين مدنيون، أن انقلابا حدث منذ الحرب العالمية الثانية: قبلها كان معظم ضحايا الحروب من الجنود، أما بعدها فقد صار المدنيون هم معظم الضحايا بأضعاف.
إلا أن ما يتعرض له الصحافيون الفلسطينيون في
غزة من تنكيل وتقتيل، منذ حوالي عامين من حرب الإبادة الإسرائيلية، لا سابق له في التاريخ منذ بداية بروز دور المراسل الحربي، أي منذ أن نقل الصحافي الإيرلندي وليام هاورد راسل وقائع حرب القرم لجريدة التايمز البريطانية، من عام 1854 إلى 1856، ومنذ أن قال بشأن هذا الجنس الصحافي الخطِر، الذي دشنه بنزاهة في النقل أغضبت قادة الجيش البريطاني، إنه يشعر أنه «الأب البئيس لقبيلة من المنكوبين بانعدام الحظ (يقصد المراسلين الحربيين)».
وإذا كانت معظم جيوش الغزو أو
الاحتلال قد نالت من الصحافيين، مثلهم مثل بقية المدنيين، بالأسر أو الجرح أو القتل، فإن جيش الإبادة الإسرائيلي قد استحدث نوعا من التنكيل لم يأته جيش قبله.
لهذا قالت جمعية صحافيي وكالة الأنباء الفرنسية: «منذ أن أنشئت وكالة فرانس برس في أغسطس عام 1944 فقدْنا صحافيين في الحروب، كما كان بين صحافيينا من أصيب ومن أُسِر، ولكن ليس بيننا من يذكر أنه رأى أحد زملائنا يموت جوعا.
إننا نرفض تركهم يموتون». وكان عدد من الصحافيين الفرنسيين والأجانب قد نظموا يوم 28 مايو مظاهرة أمام مقر وكالة فرانس برس لإعلان التضامن مع زملائهم والمطالبة بوقف المجازر ضد الصحافيين. وقالت جمعية الصحافيين يوم 22 يوليو: إذا لم يقع التدخل الفوري فإن آخر الصحافيين في غزة سوف يموتون. كما قالت منظمة مرسلون بلا حدود: بهذه الوتيرة التي يُقتل بها الصحافيون (إما بالرصاص أو الجوع) في غزة، لن يوجد بعدُ أحد لإخبار العالم بما يحدث هناك.
ذلك أن سياسة التجويع الممنهج التي تطبقها إسرائيل بكل دأب وتصميم (بينما تعلن بكل صفاقة: «لا مجاعة في غزة، وحماس تفتعل أزمة غذاء»!!!) قد شملت جميع المدنيين الفلسطينيين. لقد تعمد «الجيش الأكثر أخلاقية في العالم» قتل أكثر من مائتي صحافي فلسطيني، ومنهم من قتل معه جميع أفراد عائلته.
ولكن رغم ذلك بقي الصحافيون الفلسطينيون في غزة صامدين صمود الصناديد (بالمعنى الحرفي المشهود والملموس) وبقي مراسلو وكالات الأنباء العالمية والقنوات التلفزية العربية منهم يُبْلون أحسن البلاء الإخباري، وبقوا ينقلون للبشرية قاطبة، ولكل إنسان لديه شجاعة البصر والتبصّر ونزاهة الاحتكام إلى الوقائع الموثقة المصورة، حقائق حرب إبادة وتجويع همجية لا مثيل لها في التاريخ الحديث أو المعاصر.
لقد صمد الصحافيون الفلسطينيون وثبتوا. ولكن أنَّى لهم الآن مجرد الوقوف أو الكلام وقد صاروا جياعا؟! إنه لموقف مخز لكل البشرية أن يبلغ الأمر بالمراسل أنس الشريف، مثلا، أن يقول: لم أتوقف عن التغطية لحظة واحدة منذ 21 شهرا.
واليوم أقولها بصراحة وبوجع لا يوصف: أنا أترنح من الجوع، أرتجف من الإرهاق، وأقاوم الإغماء الذي يلاحقني في كل لحظة (..) غزة تموت… ونحن نموت معها».
والواقع أنه رغم وهن مواقف الحكومات الغربية من حرب الإبادة الإسرائيلية، فإن عددا منها ظل يطالب بوجوب السماح بدخول الصحافيين لقطاع غزة، حيث قالت المفوضة الأوروبية لإدارة الأزمات حاجة الحبيب: ينبغي على إسرائيل أن تترك للصحافة العالمية حرية العمل وتضمن دخولها لغزة.
وجدد وزير الخارجية الفرنسي جان-نويل بارو مطالبة إسرائيل بالسماح «للصحافة الحرة والمستقلة بالدخول إلى القطاع حتى تُظهر ما الذي يقع هناك». كما ثبتت منظمة مراسلون بلا حدود على تجديد المطالبة بإنهاء الحصار الذي تضربه إسرائيل على القطاع وبالفتح الفوري للحدود أمام الصحافيين.
أما اليوم فقد «وقفت الزنقة للهارب»، كما يقول المثل التونسي: هربت إسرائيل وأوغلت بعيدا في زقاق الكذب؛ ولكنها تقف الآن في آخر الزنقة بلا حيلة ولا مهرب. إذ يكفي لأي عاقل أن يعلم أنها تقتل الصحافيين الفلسطينيين وتمنع الصحافيين الأمريكيين والأوروبيين من دخول غزة ليفهم أنها تتوهم القدرة على ستر عورة هولوكوستها التلمودي.
القدس العربي