سياسة تركية

فضائح فساد تهز بلديات كبرى واعتقال رؤساء بلديات.. ماذا يحدث في تركيا؟

بين الفساد والمحاسبة.. تركيا تشهد موجة اعتقالات لرؤساء بلديات كبرى في فضائح مالية - جيتي
بين الفساد والمحاسبة.. تركيا تشهد موجة اعتقالات لرؤساء بلديات كبرى في فضائح مالية - جيتي
تشهد تركيا هذه الأيام واحدة من أوسع حملات مكافحة الفساد في تاريخها الحديث، بعد أن كشفت التحقيقات القضائية عن شبكة واسعة من الرشاوى والفساد المالي والإداري، تورّط فيها عدد من رؤساء البلديات والمسؤولين المحليين، وعلى رأسهم شخصيات بارزة من حزب الشعب الجمهوري المعارض. 

وتزامن هذا الزلزال السياسي مع دعوات للاحتجاج الشعبي واتهامات متبادلة بين المعارضة والحكومة حول تسييس القضاء واستخدامه كأداة لتصفية الحسابات.

علبة بقلاوة تفضح شبكة فساد
بدأت القصة من مدينة مانافجات التابعة لأنطاليا، حين ألقت السلطات القبض على نائب رئيس البلدية، محمد إنجين توتر، وهو يتلقى رشوة نقدية بقيمة 110 آلاف يورو مخبأة داخل علبة "بقلاوة"، ما شكل مشهداً صادماً للرأي العام، ودليلاً دامغاً دفع النيابة العامة إلى شن حملة تفتيش واسعة داخل مبنى البلدية.


كشفت التحقيقات لاحقاً عن شبكة فساد معقدة تشمل مسؤولين كبار في بلدية مانافجات٬ من بينهم رئيس البلدية نياز نفي كارا، الذي اعتُقل مع 27 مشتبهاً آخرين، بعضهم من أقربائه ومستشاريه ومديري الإدارات الحيوية كالتخطيط العمراني ومراقبة البناء.

وبحسب النيابة، جرى تحويل أكثر من 800 مليون ليرة تركية من المال العام إلى حسابات شخصية، في مقابل تسهيلات تتعلق بمنح تراخيص البناء وتشغيل المشاريع التجارية، فيما تم دفع مليون ليرة لإغلاق بلاغ رسمي تم تقديمه إلى مركز شكاوى المواطنين التابع للرئاسة (CİMER).

اظهار أخبار متعلقة


رشاوى مقابل الفيلات وتراخيص البناء
لم تقتصر الفضائح على أنطاليا، إذ امتدت التحقيقات إلى بلديات كبرى في أضنة وأديامان وبيوك تشكمجه، وسط اتهامات لرؤساء بلديات من حزب الشعب الجمهوري بتلقي رشاوى من رجال أعمال مقابل منح تراخيص للبناء أو غضّ الطرف عن مخالفات عمرانية.

في أضنة، تم اعتقال رئيس بلديتها الكبرى زيدان كارالار، على خلفية مزاعم بأنه تلقى منافع مادية غير مشروعة أثناء توليه رئاسة بلدية سيهان، ووجه مرجعين من الشركات المتعاملة مع البلدية إلى أحد مديريها للحصول على مقابل مالي لتسهيل العقود والخدمات.

في أديامان، تم اعتقال رئيس بلديتها عبد الرحمن توتدير، ونائبه جايهان كايهان، بعد توجيه اتهامات مماثلة تتعلق بقبول أموال من شركات متعاملة، وتشير التحقيقات إلى أن هذه المدفوعات تمت على مراحل وبناءً على توجيهات مباشرة من رئيس البلدية نفسه.

أما في بلدية بيوك تشكمجه، فقد طالت الاعتقالات نائب رئيس البلدية أحمد شاهين وسائقه، حيث يشتبه في تورطهما في تلقي أموال من مقاولين فازوا بعقود مشبوهة مع البلدية، كما تم اعتقال محامٍ يُدعى أونور بيوكهاتيب أوغلو بتهمة التواطؤ والعمل على منع "انهيار تنظيمي" داخل الشبكة الإجرامية من خلال الضغط على الموقوفين بعد زيارتهم في السجون.


عقارات لأقارب رئيس البلدية
الفضيحة لم تتوقف عند هذا الحد، ففي إطار التحقيقات المرتبطة ببلدية بيوك تشكمجه، تبيّن أن رئيسها حسن أكنغون، أجبر بعض رجال الأعمال على تقديم فيلات فاخرة لأقاربه، مقابل منحهم تصاريح بناء وموافقات تنظيمية على مشاريعهم، وهو ما يُعد بحسب القانون "رشوة ممنهجة واستغلالا للمنصب العام".

وأصدرت النيابة العامة أوامر باعتقال أربعة رجال أعمال متورطين في تقديم تلك العقارات، إضافة إلى أربعة مشتبه بهم من أقارب أكنغون الذين تم تسجيل العقارات بأسمائهم.

محافظ أنطاليا السابق في مرمى الاتهام
في تطور لافت، طالت التحقيقات أيضاً محافظ أنطاليا السابق محمد بوكت، الذي أُوقف رفقة زوجته السابقة زينب كيريم أوغلو، بعد أن كشفت اعترافات رجل الأعمال يوسف يادوغلو عن وجود عمليتي رشوة منفصلتين ترتبطان بالتحضير للانتخابات المحلية الأخيرة عام 2024.

ووفقاً لما تم تسريبه من التحقيقات، فقد طلب غوكهان بوكت، نجل المحافظ، مبلغ 25 مليون ليرة من رجل الأعمال يادوغلو، مقابل تزيين سيارات الحملة الانتخابية، وبعد مفاوضات تم الاتفاق على دفع فاتورة بقيمة 8.5 ملايين ليرة. كما قام بشراء منزل لزوجته السابقة بقيمة 30 مليون ليرة، دفعت على ثلاث دفعات من نفس المصدر.

اظهار أخبار متعلقة


عزيز إحسان أكتاش.. العقل المدبر؟
وفي إسطنبول تشير تحقيقات النيابة إلى أن هذه الشبكة الواسعة من الفساد قد تكون مرتبطة بمنظمة إجرامية يقودها رجل الأعمال عزيز إحسان أكتاش، والذي يُعتقد أنه كان يتعامل مع العديد من البلديات، بينها بلديات تابعة لحزب الشعب الجمهوري وأخرى لحزب العدالة والتنمية الحاكم.

وتشير الوثائق إلى أن أكتاش قدم خدمات وعقود توريد ومناقصات لبلديات من مختلف الأطياف السياسية، بدءًا من إسطنبول وبشيكتاش وأفجيلار، إلى أنطاكيا وأضنة وكوجالي وشانلي أورفا، ما يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت ملاحقته القانونية تتم وفق معيار مزدوج، يركز فقط على البلديات المعارضة.


زعيم المعارضة: “لا تجعلوني أدعو الشعب إلى الشارع”
رد حزب الشعب الجمهوري جاء سريعا وغاضبا، حيث اعتبر زعيمه أوزغور أوزيل أن الاعتقالات تمثل “انقلاباً سياسياً مقنعاً” ضد البلديات التي فاز بها الحزب في الانتخابات المحلية، ملوحا بالنزول إلى الشارع في حال استمرت الحكومة باستخدام القضاء كأداة للضغط السياسي.


وخلال مؤتمر صحفي أعقب اجتماعا طارئا للهيئة التنفيذية للحزب، قال أوزيل: “أدعو الشعب إلى التظاهر في الساحات التي أعلنا عنها مسبقًا... أعرف اليوم الذي سأدعو فيه الشعب إلى الشارع. لكن لا تجعلوني أفعل ذلك”.

وهاجم أوزيل الرواية الحكومية، قائلاً إن المزاعم ضد رؤساء البلديات "مجرد شائعات وافتراءات"، مشددا على أن جميع التحقيقات تستهدف البلديات التي تتبع لحزبه، رغم أن عزيز إحسان أكتاش، المتهم المركزي في القضايا، لديه علاقات تجارية مع العديد من البلديات والمؤسسات التابعة لحزب العدالة والتنمية.

وفي تصريح مثير، تساءل زعيم المعارضة: “لماذا لم تُفتح تحقيقات مع البلديات التي يسيطر عليها حزب العدالة والتنمية والتي تعاملت مع أكتاش؟ هل القضاء أعمى عن الفساد إذا كان الجاني من الحزب الحاكم؟”، مشيرًا إلى بلديات مثل الفاتح، زيتين بورنو، كهرمان مرعش، أنطاكيا، وباليكسير التي ورد اسمها في تعاملات أكتاش.

وأضاف: "لو كانت إحدى هذه البلديات تابعة لحزب الشعب الجمهوري، لتم اعتقال رؤسائها فوراً. لكن عندما تكون البلديات من حزب العدالة والتنمية، يتم التغطية على الفساد والتعامل معه داخلياً".

ومع تواصل التحقيقات، وازدياد عدد المعتقلين، يبدو أن تركيا مقبلة على مرحلة سياسية متوترة.
وبينما تتسارع وتيرة الأحداث، تبقى أعين الشارع التركي متجهة نحو القضاء، في انتظار ما إذا كان سيتعامل مع جميع الملفات بالحيادية المطلوبة، أم سيستمر الجدل حول تسييس العدالة وازدواجية المعايير في محاربة الفساد.
التعليقات (0)