رفعت
إسرائيل مؤخراً الحظر الذي كانت تفرضه على ثلاثة أحزاب سياسية يمينية متطرفة في أوروبا، وهي التجمع الوطني في فرنسا، وحزب الديمقراطيين في السويد وحزب فوكس في إسبانيا. يعتبر هذا تحولاً كبيراً في السياسة الخارجية الإسرائيلية، يتجلى في التواصل والتعامل مع أحزاب كان يتم النأي عنها من قبل بسبب مخاوف من توجهاتها وعقائدها المتطرفة المعادية للسامية.
ينسجم هذا التغير في السياسة مع استراتيجية إسرائيل الأوسع والتي تقضي بإبرام تحالفات مع الحركات
اليمينية المتطرفة في أوروبا، والتي قام كثيرون منها بإعادة تعريف أنفسهم باعتبارهم مناصرين لإسرائيل بينما يبقون على مواقفهم الكارهة للأجانب والمعادية للمسلمين.
عادة ما تقوم هذه التحالفات على أرضية مشتركة من معارضة الإسلام والهجرة، بما يعكس حالة من تلاقي المصالح من شأنها أن تثير إشكالات أخلاقية واستراتيجية.
أمواج التاريخ لا ترحم، ومع ذلك يبحر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عبرها باسترسال أرعن. فقد قام بإبرام تحالف مخادع في أنحاء أوروبا والولايات المتحدة مع أولئك الذي كانوا، حتى زمن ليس بالبعيد، يقفون في نفس خندق ألد أعداء الشعب
اليهودي عبر التاريخ.
انطلاقاً من حاجته الماسة إلى الدعم الدبلوماسي، اختار نتنياهو التحالف مع حركات تقوم على كراهية الأجانب ومعاداة المسلمين، كما تقوم – على الرغم من خطابها المنمق المناصر لإسرائيل – على نفس معاداة السامية، تلك الظاهرة التي طالما طاردت يهود أوروبا على مدى قرون. إنه احتضان يعكس خيانات الماضي، ويذكر بشكل مرعب بأن المواءمة السياسية عادة ما تتفوق على الوضوح الأخلاقي.
يمتد هذا الغزل السياسي في أرجاء القارة. ففي إسبانيا يوجد حزب فوكس اليميني المتطرف، الذي كثيراً ما مثل مسؤولوه أمام المحاكم بسبب خطابهم المعادي للمسلمين، وها هو الآن يستقبل بالترحاب في إسرائيل، حيث عقد اجتماعاً في ديسمبر 2023 مع وزراء من حكومة الليكود لمناقشة التهديد الذي يشكله "الإسلام الراديكالي" واستراتيجية الدفاع عن "القيم الأوروبية".
ليست هذه لغة من يبتغون السلامة لليهود، وإنما لغة القوميين العرقيين الذين يرون اليهود مفيدين في هذا الوقت ولكن يمكن الاستغناء عنهم على المدى البعيد.
رؤية إقصائية
ثم عاد زعيم فوكس واسمه سانتياغو أباسكال إلى إسرائيل العام الماضي ليدين اعتراف إسبانيا بالدولة الفلسطينية، وليقف بجوار نتنياهو في تحد سافر لليسار الإسباني. هذا الشخص الذي تحمل عقيدته بصمات الفكر العنصري الفوقي بات يجد نفسه في بيته داخل ردهات السلطة في تل أبيب.
وفي هولندا قاد زعيم اليمين المتطرف غيرت فيلدرز حزبه، حزب الحرية، إلى داخل الحكومة واعداً بالنظر في نقل السفارة الهولندية إلى القدس وتكريس تعليم المحرقة – ليس انطلاقاً من قلق أصيل بشأن التاريخ اليهودي، وإنما من باب تعزيز الرؤية الإقصائية للهوية الهولندية.
يعطي نتنياهو الأولوية لتحالفه مع الصهاينة المسيحيين على العلاقات القديمة مع زعماء اليهود الأمريكيين. لا يرى هؤلاء الصهاينة المسيحيون إسرائيل وطناً يهودياً، وإنما كأداة نبوئية لأحلامهم التوراتية.
غيرت ويلدرز، الذي يحترف معاداة المسلمين، قام بتعيين وزير يتهم بالارتباط بالموساد – وهي الخطوة التي تم اعتراضها بعد ورود تحذير من المخابرات الهولندية. أن تكون حكومة نتنياهو على علاقة وطيدة برجل يرتزق من العنصرية هو في حد ذاته إدانة دامغة لمثل هذه التحالفات.
ولكن لا يوجد بلد يمثل السياسة الواقعية الانتهازية التي يتبناها نتنياهو أكثر من المجر، حيث احتضن رئيس الوزراء فيكتور أوربان رغم ما يصدر عن حكومته من عبارات مجازية معادية للسامية ضمن الحملة التي تشنها الدولة ضد الممول اليهودي جورج سوروس. وعلى الرغم من المجتمع اليهودي المجري حذر من تصاعد معاداة السامية إلا أن نتنياهو التزم الصمت، وحرص على أن يسحب سفير إسرائيل في المجر تصريحاً نادراً ينتقد فيه توجهات الحكومة.
والسبب واضح، ألا وهو أن أوربان، وعلى الرغم من قوميته الغالية، يوالي إسرائيل ويدافع عنها في المحافل الأوروبية. وبذلك يكون نتنياهو قد باع السلامة اليهودية بمكسب سياسي، وهو ما لا يكف عن فعله المرة تلو الأخرى.
المنطق الذي تُبرر به هذه التحالفات بسيط للغاية. أولاً، ترك نتنياهو المجال أمام الأحزاب اليمينية المتطرفة لتعرف إسرائيل باعتبارها رأس حربة للحضارة اليهودية المسيحية، وتوصيفها على أنها خط المواجهة الأول للغرب ضد الإسلام. وفعلاً، وصف ويلدرز إسرائيل بأنها "خط المواجهة الأول للغرب". هذا ليس دعماً، وإنما استيلاء واستباحة. هذه القوى لا تحب إسرائيل لما هي عليه وإنما لما تبرره داخل بلدانهم.
ثانياً، تمنح هذه العلاقة اليمين المتطرف باباً للهروب من ماضيه المعادي للسامية. بإمكان الأحزاب المشوبة بالحنين إلى النازية، وإنكار المحرقة ونظريات المؤامرة المعادية لليهود أن تطهر نفسها من خلال إبرام تحالف مع إسرائيل. لم يعد أوربان ولا فيلدرز ولا أباسكال بحاجة لأن يُساءلوا عن جذورهم الأيديولوجية. لقد منحهم نتنياهو درعاً واقياً إلى الأبد.
ثالثاً، مقابل هذا الإبراء، تمنح هذه الحركات إسرائيل مساندة سياسية في المحافل الدولية مثل الاتحاد الأوروبي، بهدف نقل السياسة الأوروبية نحو دعم غير مشروط لأفعال إسرائيل، مهما كانت خلافية. ولقد تفاخر وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون سعار مؤخراً بأن توجه أوروبا نحو اليمين المتطرف يفيد إسرائيل.
أحلام توراتية
تتكرر نفس الحكاية في الولايات المتحدة، حيث يعطي نتنياهو الأولوية لتحالفه مع
الصهاينة المسيحيين على العلاقات القديمة مع زعماء اليهود الأمريكيين. لا يرى هؤلاء الصهاينة المسيحيون إسرائيل وطناً يهودياً، وإنما كأداة نبوئية لأحلامهم التوراتية.
شخصيات مثل جون هاغي، مؤسس "مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل" يحتضنون إسرائيل بينما يروجون في نفس الوقت لعقائد معادية للسامية – مثل أن هتلر كان مرسلاً من قبل الرب حتى يدفع اليهود باتجاه إسرائيل. ولكن نتنياهو لا يكترث لذلك، ولذا جعل من هذا التحالف أولوية له، مفضلاً أثناء زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة قضاء الوقت مع الملياردير إيلون ماسك وزعماء الصهاينة المسيحيين على أن يمضيه مع عائلات الرهان اليهود الأمريكيين.
ثم هناك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي أعلن نفسه أكبر حلفاء إسرائيل، والذي صرح في عام 2019 أن اليهود الذين صوتوا للديمقراطيين كانوا إما جهلة أو خونة. ثم كرر نفس هذه المزاعم في عام 2022 في خضم التداعيات الناتجة عن العشاء الذي تناوله مع القومي الأبيض ومنكر المحرقة نيك فوينتس. ثم كررها مؤخراً قبل الانتخابات التي جرت العام الماضي، حينما أعرب بأسى عن أنه من غير المقبول أن يصوت له فقط أربعون بالمائة من اليهود، وأن الستين بالمائة الباقين صوتوا لشخص يكره إسرائيل.
في الواقع، وبحسب تحليل أجرته كل من وكالة أسوشييتد بريس وقناة فوكس لاستطلاع تم عبر الإنترنيت، فإن نسبة اليهود الذين صوتوا للمرشحة الديمقراطية كاميلا هاريس كانت 66 بالمائة مقابل 32 بالمائة لصالح ترامب. مغزى ذلك الاختبار من الولاء لترامب جلي، ألا وهو أن ثلثي اليهود الأمريكيين الذين لا يتوافقون مع سياسات ترامب يعتبرون خائنين لشعبهم. وهذه هي نفس اللغة التي سعرت جنون معاداة السامية لأجيال متعاقبة.
مهندس الأيديولوجيا التي يتبناها ترامب، ستيف بانون، ذهب أبعد من ذلك. بانون، العقل المدبر من وراء أجندة ترامب القومية، بات يستخدم الشعارات الفاشية. ففي مؤتمر الفعل السياسي المحافظ، وقف أمام الجمهور المهلل له، وفي لحظة التقطتها الكاميرات، رفع يده وحيا الحضور بتحية تذكر بالمهرجانات النازية. ما كان لعين أن تخطئ تلك الحركة ذات الرمزية المروعة.
تكشف تصريحات بانون الأخيرة عن المسار الخطير الذي تتخذه هذه الحركة، حيث أكد في مقابلة أثناء مؤتمر الفعل السياسي المحافظ أن "أكبر عدو" لإسرائيل ليس الإسلاميين ولا إيران وإنما يهود أمريكا التقدميين.
هدف ذلك التصريح كان لدق إسفين بين المجتمعات اليهودية، يقسمها إلى "يهود طيبين" و "ويهود خبيثين" – أولئك الذين يدعمون رؤية اليمين المتطرف لإسرائيل وأولئك الذين يقفون ضدها.
تآكل الدعم
ليست هذه هي المرة الأولى التي يعتقد فيها قادة الصهاينة أن بإمكانهم إبرام صفقات مع القوى المعادية للسامية. كتب تيودور هيرتزل ذات مرة، وهو مؤسس الصهيونية السياسية الحديثة، يقول: "سوف يصبح المعادون للسامية أكثر من نعتمد عليهم من أصدقائنا، وتصبح البلدان المعادية للسامية حلفاءنا".
بل كان رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ديفيد بن غوريون أكثر وضوحاً حين صرح قائلاً: "حتى لو كانت مشاعري اليهودية تحضني على الذهاب إلى فرنسا، لن أفعل .... إن الصهيونية هي أعمق شيء في اليهودية، وأعتقد أن علينا أن نتصرف بناء على الاعتبارات الصهيونية وليس مجرد الاعتبارات اليهودية".
وصل هذا المنطق إلى أبشع أشكاله في اتفاق هافارا لعام 1933، حينما أبرمت الحركة الصهيونية، بما في ذلك الوكالة اليهودية، صفقة مع ألمانيا النازية لتسهيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين عبر ترتيبات مالية خاصة. استفاد النازيون بأن تجنبوا المقاطعات الدولية، ونجم عن الاتفاق نقل 53 ألف يهودي إلى فلسطين على مدى ست سنين وصولاً إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية.
في هذه الأثناء، أقام المراجعون الصهاينة، وهم الأسلاف العقائديون لحزب ليكود الذي يقوده نتنياهو، علاقات مع نظام موسوليني الفاشي في ثلاثينيات القرن العشرين، واستفادوا من ذلك في تدريب شبابهم في إيطاليا إلى أن غدا التحالف غير ممكن بسبب قوانين الفصل العنصري.
والآن يساهم تحالف نتنياهو الأرعن مع اليمين المتطرف في تآكل غير مسبوق فيما تحظى به إسرائيل من دعم في الغرب. فقد كشف استطلاع غالوب السنوي للشؤون العالمية عن أن 33 بالمائة من الديمقراطيين ينظرون إلى إسرائيل بإيجابية – وهذا نصف النسبة التي دونت في عام 2020 وبلغت 67 بالمائة. لأول مرة ينظر أغلبية الديمقراطيين (ستون بالمائة منهم) إلى إسرائيل بشكل غير إيجابي.
لا يعتبر احتضان نتنياهو لليمين المتطرف خروجاً عن مسار التاريخ، بل هو استمرار منطقي له. إلا أن التداعيات بدأت تتجلى بوضوح. من ذلك أن السيناتور تشاك شومر، أشد المدافعين عن إسرائيل في واشنطن، أصدر بياناً في العام الماضي يتضمن تحذيراً صارماً قال فيه إن نتنياهو "ضل الطريق" وأن إسرائيل "لا يمكنها أن تنجو فيما لو غدت دولة منبوذة".
ولكن نتنياهو لا يسمع. بل يعتقد أنه يمارس لعبة ذكية، تضمن له الحصول على دعم قصير المدى من أولئك الذي بيدهم السلطة اليوم. ولا يرى الهوة التي تنفتح تحت قدميه.
إن اليمين المتطرف لا يتغير، وكراهيتهم لا تتلاشى، وإنما تغير من اتجاهها بشكل مؤقت. وعندما تعود نظرتهم العنصرية القومية إلى الجذور، ويشرعون في استهداف اليهود ثانية على المكشوف، وتغدو إسرائيل نتنياهو بلا فائدة لهم، فمن سيكون قادراً على ردعهم؟