في ظل الدمار الواسع الذي خلفته حرب
الإبادة الأخيرة على قطاع
غزة، ومع انعدام مواد البناء وعدم البدء في عمليات
الإعمار، بدأ الشاب الغزّي سليمان أبو حسنين العمل على تطوير مشروع جديد أسماه "جرين
روك" لإنتاج
طوب صديق للبيئة من ركام المباني المهدمة.
وُلد المشروع من حاجة مباشرة لاجتراح
حلول محلية تعالج نقص مواد البناء، وتقدم بدائل عملية للناس الذين فقدوا منازلهم
ولا يملكون إمكانية انتظار فتح المعابر أو دخول الأسمنت التقليدي، حيث في ورشة صغيرة في مدينة دير
البلح وسط قطاع غزة، بدأ أبو حسنين بتجارب أولية لتطوير طوب "الليغو
المتشابك" باستخدام
مواد محلية فقط، وعلى رأسها الركام المعاد تدويره.
في البداية، صنع آلة بسيطة، ثم أدخل
عليها تعديلات متكررة رغم الظروف المعقدة التي تشمل انقطاع الكهرباء، وندرة القطع
اللازمة للتصنيع، وارتفاع تكلفتها داخل غزة.
طوب
من الركام
يقول أبو حسنين لـ "عربي21"، "المشروع
لم يكن خيارا هندسيا، بل استجابة مجتمعية، فالحصار ومنع إدخال مواد البناء خلقا
فجوة كبيرة في قدرة الناس على ترميم المنازل، ومع اتساع الدمار خلال الحرب الأخيرة
أصبحت المشكلة أزمة عمرانية حقيقية".
ويضيف:
"كان الدمار الهائل دافعا قويا لتسريع
العمل، أدركنا أننا بحاجة لبدائل محلية بالكامل، بعيدا عن انتظار فتح المعابر أو
دخول الإسمنت".
ورغم العقبات التقنية، تمكن أبو
حسنين من تطوير ماكينة إنتاج محلية قادرة على تصنيع طوب الليغو، وبقدرة إنتاجية
تصل إلى 2000 – 4000 طوبة يوميا عند تشغيلها بكامل طاقتها.
ويؤكد أبو حسنين أنه يعمل على تطوير "طوبة
صفر إسمنت" مستوحاة
من العمارة الطينية اليمنية، وهو مسار بحثي يسعى لتقليل الاعتماد على المواد
التقليدية التي يصعب الحصول عليها.
ويعتمد مشروع جرين روك على إعادة
تدوير الركام، حيث يتم سحق الخرسانة وفرزها ومعالجتها، ثم مزجها مع مواد محلية
خاصة لإنتاج طوبة قوية يمكن استخدامها في البناء.
ويوضح أبو حسنين أن هذا النموذج
يساهم في معالجة تراكم الركام في الشوارع، ويقدم في الوقت نفسه مادة بناء قابلة
للاستخدام الفوري.
حل
عملي للنازحين
يرى أبو حسنين أن المشروع يقدّم حلا
عمليا لمشكلة المأوى التي يواجهها عشرات آلاف النازحين، فطوب الليغو لا يحتاج إلى
خبرة هندسية عالية، ولا إلى معدات ثقيلة، ما يسمح ببناء غرف وملاجئ ووحدات سكنية صغيرة
بسرعة وبكلفة أقل، كما يمكن استخدامه لتشييد مدارس بديلة، نقاط طبية، أو منشآت
ميدانية مؤقتة.
ويشير إلى أن التجارب الميدانية شملت
تعاونا مع مركز العمل التنموي "معًا"،
الذي دعم المشروع وطلب تصميم مركز تعليمي كامل باستخدام طوب الليغو، وبعد إعداد
الرسومات الإنشائية والحسابات المالية تبين أن التكلفة أقل بكثير من البناء
التقليدي، وبزمن تنفيذ أقصر.
مشروع
محلي كامل
ويوضح أبو حسنين أن من بين أبرز عناصر قوة مشروع جرين
روك أنه
مشروع محلي بالكامل، فالآلة مصنوعة في قطاع غزة، المواد أيضا من غزة، وحتى المعرفة
التقنية مكتسبة داخل القطاع دون الحاجة لخبراء من الخارج؛ هذا التوطين التقني جعل
المشروع أقل عرضة للتعطل نتيجة الحصار الذي يفرضه الاحتلال وإغلاق المعابر أو
انقطاع سلاسل التوريد.
تلقى المشروع دعمًا مباشرًا من مركز
الابتكار وريادة الأعمال في مؤسسة "معا"،
ما ساعد الفريق على تطوير الماكينة وشراء معدات تجريبية لم يكن من الممكن توفيرها
في الظروف العادية، كما يضم الفريق خبرات دولية تعمل بشكل تطوعي، مثل رجل الأعمال
البرازيلي لوكاس، وخبير صيانة الماكينات الكندي كيو.
مسارات
مهنية للشباب
يعتبر أبو حسنين أن أهمية المشروع
تتجاوز البعد الإنشائي، فجرين روك يفتح مسارا اقتصاديا جديدا للشباب، سواء عبر
التشغيل المباشر داخل الورشة، أو من خلال برامج التدريب التي يمنحها للفنيين
والمهندسين على تقنيات بناء طوب الليغو، حيث يمكن للمتدربين لاحقا تأسيس مشاريع
مقاولات صغيرة خاصة بهم.
كما تخلق عملية جمع الركام وفرزه
ومعالجته فرصا غير مباشرة لعدد من العمال، ما يجعل سلسلة إنتاج الطوب المرتبطة
بالمشروع مصدرًا لمهن جديدة مرتبطة بمرحلة ما بعد الحرب.
يوضح أبو حسنين أن المشروع لا يقوم
على إنتاج الطوب فقط، بل على نموذج إعمار مرن يعتمد على الموارد المتاحة داخل غزة،
حيث يعتمد النموذج على تقليل كلفة البناء وتسريع التنفيذ دون انتظار دخول مواد
البناء التقليدية.
ويرى أن هذا النموذج يمكن أن يكون
جزءًا من خطط الإعمار الكبرى التي تعمل عليها المؤسسات الدولية.
ويقول إن الإعمار التقليدي سيستغرق
سنوات طويلة، بينما يمكن للنماذج المحلية التي تعتمد على إعادة التدوير أن تسرع
العملية وتعطي الناس القدرة على إعادة بناء مساكنهم دون انتظار طويل.
في ختام حديثه، يوجّه سليمان أبو
حسنين شكره لمؤسسة "معًا" ومركز الابتكار وريادة الأعمال فيها، مؤكدًا أن الدعم الفني
والمالي الذي تلقاه كان عنصرًا حاسمًا في استمرار المشروع رغم الظروف الصعبة داخل
القطاع.
إعمار
مجتمعي مستدام
تقول م. فداء مرجان، مديرة مركز الابتكار وريادة الأعمال في مؤسسة "معا"،
إن احتضان فكرة "جرين
روك" جاء
من إيمان عميق بقدرة الشباب
الفلسطيني على إنتاج حلول عملية رغم الحرب والإبادة
واتساع مشاهد الدمار، فالمشروع انطلق ضمن برنامج الإبداع الإنساني، الأول من نوعه
في قطاع غزة، ليعيد روح الريادة بطريقة تتوافق مع واقع ما بعد الحرب.
وتوضح لـ "عربي21" أن "المرحلة
فرضت الحاجة إلى مبادرة قادرة على معالجة ملايين الأطنان من الركام، في ظل غياب
مشاريع محلية تستطيع إعادة تدويره بكفاءة.
وتشير مرجان إلى أن "المركز
اعتمد في التقييم على معايير أبرزها: توفر
بديل فعلي لمواد البناء، الاعتماد الكامل على موارد محلية، الأثر البيئي الإيجابي،
قابلية التوسع، وقدرته على تعزيز الصمود.
وقدّم المركز دعماً شمل التمويل،
وتطوير النماذج الأولية، والإشراف الهندسي، وتوفير مساحة عمل، وإعداد خطة إنتاج
قابلة للتنفيذ، إضافة إلى ربط المشروع بشركاء محتملين.
وتؤكد مرجان أن دعم مثل هذه المشاريع
ليس خيارا ثانويا، بل ضرورة استراتيجية لتعزيز الاعتماد على الذات، خلق فرص العمل،
وبناء نموذج إعمار مجتمعي مستدام يقلّل هشاشة المجتمع أمام الأزمات.