في عالمٍ مشبع بالمحتوى والخيارات، وتنافس حاد بين الشركات لجني المليارات عبر تسويق علامات تجارية لدرجة أن بعضها ما عاد يكتفي بسؤال المستهلكين عمّا يريدونه، بل بدأت عمليات اختراق لأفكارهم وتحليل مشاعرهم بفضل علم الأعصاب وتقنيات
الذكاء الاصطناعي الحديثة التي غزت معظم الأجهزة، سواء في المنزل أو المكتب أو حتى خلال قيادة السيارة.
من الظواهر التي باتت تشغل الكثيرين، هو ظهور إعلان لمنتج على شاشات هواتفهم وأجهزة الحواسيب بعد فترة قصيرة من التفكير بها، ظاهرة باتت تثير الجدل في عصر التكنولوجيا، يعزوها البعض إلى أن الأمر مجرد صدفة، في حين يميل الكثيرون إلى اتهام تطبيقات التواصل الاجتماعي بالاستماع المباشر عبر الميكروفون لمحادثاتهم الصوتية ومراسلاتهم الكتابية، ومن ثم بناء الشركات وفق ما لديها من بيانات رؤية لطبيعة اهتمام الشخص المستهدف، وهو ما عد نوع من التجسس وانتهاك الخصوصية رغم نفي الشركات الكبرى مثل "
غوغل" و "
ميتا" بمجموعة منصاتها المختلفة.
"نشعر أن لا أحد يصدقنا"
على موقع "
medium" وهي منصة مخصصة لمشاركة الأشخاص لقصصهم وأفكارهم الإنسانية، سرد
أحدهم تجربة مر بها، ظن بادئ الأمر أنها مجرد مصادفة، حيث فكر في شراء كرسي جديد من النوع المريح القابل للإمالة بسبب شعوره بألم في ظهره، مؤكدًا أنه لم ينطق بذلك بصوت عالٍ، ولم يبحث عنه، بل كانت مجرد فكرة عابرة، وفي وقت لاحق من مساء اليوم نفسه، بينما كان يتصفح موقع يوتيوب، ظهر له إعلان لكرسي مكتب مريح، يقول إنه تجاهل الأمر في البداية، لكنه تكرر، وتكرر، حتى شعر بأن هاتفه يعرف ما يريد قبل أن يكتب أي كلمة واحدة، واتضح لديه أنه لم يكن الوحيد ممن يمر بهكذا تجربة، حيث وجد آخرين قد لاحظوا حدوث الشيء نفسه معهم.
خلال بحثه وتقصيه، وجد مستخدمين على موقع "
Reddit" وهم يطرحون نفس المشكلة للنقاش، قال أحدهم: "لقد طرحتُ هذا السؤال لأنني كنتُ آكل وأشاهد فيديوهات على يوتيوب، وأفكر في حساسية لثتي، وأنه يجب عليّ استخدام شيء ما. لم أتحدث عن الأمر، ولم أبحث عنه في غوغل، ثم ظهر فجأة إعلان معجون الأسنان أثناء مشاهدة الفيديو. كان الأمر يدور في ذهني فقط. لم أبحث عن أي شيء يخص علاج الأسنان في غوغل"، ردّ صاحب المنشور قائلًا: "أشعر أن لا أحد يصدقني."
صدفة أم اختراق للخصوصية؟
تعتمد شركات الإعلان العملاقة، مثل "ميتا" و"غوغل"، على تجميع كميات هائلة من البيانات من مصادر متعددة؛ بما في ذلك سجلات البحث على الويب، والتفاعلات الاجتماعية، وحتى التنقل بين المواقع عبر أدوات التتبع (Pixels).
تتيح هذه البيانات للمنصات التنبؤ باحتياجات الشخص المستهدف ورغباته، فالإشارة السلوكية الصغيرة التي لا تتذكرها (مثل نقرة سريعة على مراجعة منتج أو رسالة نصية قصيرة) هي التي تشعل فتيل الإعلان، وليست بالضرورة محادثة صوتية مسجلة، ورغم استمرار الجدل حول فرضية الاستماع عبر الميكروفون، حيث تنفي الشركات ذلك وتؤكد أنه غير عملي من ناحية استهلاك الطاقة، إلا أن العامل النفسي يلعب دورًا مهمًا.
فظاهرة "الانحياز التأكيدي" تجعل المستخدم يركز على الصدفة المذهلة للإعلان الذي يطابق فكرته، متجاهلًا المئات من
الإعلانات الأخرى غير ذات الصلة التي تعرض له يوميًا، في النهاية، يمكن القول إن ما يبدو وكأنه قراءة للأفكار هو في الواقع انعكاس دقيق ومعقد لسلوكنا الرقمي الكامل الذي يتم تحليله على مدار الساعة.
أهم الأسباب التي تجعل الإعلانات تظهر وكأنها "قراءة للأفكار"
تعد قوة الاستهداف السلوكي والتنبؤ (Behavioral Targeting) من أقوى الآليات، حيث تقوم شركات مثل غوغل وميتا (فيسبوك/إنستغرام) بتجميع كمية هائلة من البيانات عن المستخدم من مصادر مختلفة، ومنها سجل البحث على الإنترنت (Search History)، والنشاط على فيسبوك/إنستجرام (Social Activity)، وحجم التفاعل مع منشورات الأصدقاء، أو مشاهدة فيديو متعلق بما ظهر لك في الإعلان، وأيضًا التنقل بين المواقع (Cross-Site Tracking)، حيث إن غالبية المواقع التي يتم زيارتها تحتوي على "بكسلات" (Pixels) أو أدوات تتبع تابعة لشركات الإعلان، والتي تخبرهم بأن المستخدم زار صفحة منتج معين لهم (حتى لو لم يشتره)، وكذلك بيانات الموقع (Location Data)، حيث يتم تسجيل بيانات الشخص المستهدف حال زيارته لمتجر معين في العالم الواقعي، وأيضًا الشراء المسبق (Past Purchases)، حيث تتوقع الشركة المصنعة بأن المستخدم بحاجة إلى منتج مكمل لما اشتراه سابقًا.
"ميتا" تربح من الإعلانات الاحتيالية
كشف تحقيق استقصائي أجرته رويترز عن دور شركة "ميتا" مالكة منصات فيسبوك وإنستغرام وواتساب وغيرها في استمرار ظهور الإعلانات الاحتيالية والمشبوهة علىمنصاتها، وكشفت الوكالة أن نحو 10 بالمئة من أرباح "ميتا" السنوية بما يساوي قرابة 16 مليار دولار تأتي من هذه الإعلانات الاحتيالية والمشبوهة.
وأشار التحقيق إلى أن "ميتا" تفرض رسوما إضافية على بعض هذه الإعلانات "عقوبة" للمعلنين، وهو ما يعني أنها تجني المزيد من المال بدلا من إيقاف ظهورها، اطلعت رويترز على ملفات مسرَّبة من داخل شركة "ميتا" أظهرت مدى تفشي المشكلة، إذ كشفت الوثائق أن موظفَا داخل الشركة كان يرسل نشرة أسبوعية يُسمي فيها "المحتالين الأكثر احتيالَا".
وأظهرت إحدى النشرات وجود حساب ينتحل صفة رئيس الوزراء الكندي، ودفع ربع مليون دولار قيمة للإعلانات الاحتيالية، وبعد أن تحققت رويترز من خمسة حسابات داخل هذا الملف، فوجئت بأن اثنين منهما لا يزالان نشطين بعد أكثر من ستة أشهر من تنبيه الموظف لهما، كما كشف التحقيق أن ما يُقدَّر بنحو خمسة عشر مليار إعلان احتيالي يظهر يوميًا عبر منصات شركة "ميتا"
دعوات للمقاطعة والمقاضاة
وأثارت هذه الأخبار موجة غضب واسعة على منصات التواصل، وأكد أندرو وايتيد أنه لهذا السبب توقف عن شراء الأشياء عبر فيسبوك، وعبَّرت مولي عن غضبها من أن الأنظمة الآلية التي رفضت إعلانات الشركات الصغيرة والأخلاقية تسمح للمحتالين بمواصلة الترويج، وتساءلت "هل أنتم مستعدون لمقاطعتهم؟"، فيما دعا مايك ميلر إلى "مقاضاة فيسبوك بمليارات الدولارات" حتى تخسر الشركة الأموال التي تجنيها من “عمليات الاحتلال التي تقوم بها، وإلا فإنها ستستمر في ذلك"، كما وطالب حساب "فويس جويش ليبرال" بمحاكمة فيسبوك بتهمة التآمر للاحتيال، وأكد مدونون آخرون أن هذا يفسر شكاوى الناس من "متاجر وهمية، استثمارات مزيفة، حسابات تنتحل شخصيات، ومنتجات لا تصل أصلا".
رئيس إنستغرام يكشف
ردّ آدم موسيري، مدير إنستغرام، على الشائعات المتداولة حول قيام شركة "ميتا" بتفعيل ميكروفونات الهواتف سرًا للتنصت على المستخدمين، في محاولة لدحض إحدى أكثر ما بات يطلق عليه "نظريات المؤامرة" انتشارًا في وسائل التواصل الاجتماعي، ألا وهي الاعتقاد بأن الشركات تسجل المحادثات الخاصة لعرض إعلانات في أوقات محددة بدقة.
أقرّ موسيري بأنه ناقش هذه الظاهرة مرارًا وتكرارًا، حتى مع زوجته، فيما يعجز العديد من المستخدمين عن فهم كيف يُقدّم نظام الإعلانات في "ميتا" توصيات دقيقة بشكلٍ مُقلق، فبعضهم يُفكّر في منتجٍ ما، ثمّ يراه يظهر في صفحته الرئيسية بعد لحظات، وحاول موسيري تقديم تفسيرات عملية لما يحدث، مشيرًا إلى أن علم النفس البشري يفسر بعض ما اعتبرها مصادفات غريبة، فقد يكون المستخدمون قد مروا بإعلان دون وعي منهم، واستوعبوا المعلومات بشكل لا شعوري، ثم ناقشوا الموضوع لاحقًا، مما خلق انطباعًا خاطئًا لديهم بأن المحادثة هي التي أدت إلى ظهور الإعلان.
الانتقال إلى التنبؤ العصبي
قد يكون عصر الاستبيانات واختبار المنتجات قد شارف على الانتهاء في أبحاث السوق، فلن نشهد بعد الآن مكالمات عشوائية من شركات تطلب منا الإجابة على أسئلة مثل "كم مرة تستخدم مقلاة الهواء؟"، ففي عالمٍ تغمر فيه الإعلانات الرقمية كل تصفحٍ وتمريرةٍ وبثٍ، يسعى المسوّقون جاهدين لتمييز منتجاتهم، وبالتالي لم تعد الأدوات التقليدية كافيةً بعد الآن، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالحصول على صورةٍ سريعةٍ وشاملةٍ لما قد يجذب العملاء المحتملين، وعلى ما يبدوا أنه تم الانتقال إلى التنبؤ العصبي، وهو إنجاز في علم الأعصاب قد يجعل أساليب التنبؤ التقليدية بالمستهلكين عتيقة عفى عليها الزمن.
كشفت
دراسة جديدة أجرتها كلية روتردام للإدارة بجامعة إيراسموس، بالتعاون مع جامعة ستانفورد، أن تحليل نشاط الدماغ يمكن أن يتنبأ بسلوك المستهلك بدقة أكبر من أدوات التسويق التقليدية، وباستخدام التصوير العصبي لتتبع كيفية استجابة الدماغ للعروض والإعلانات قبل أن يتخذ الشخص قرارًا، قد يتمكن المسوقون من التنبؤ بما يريده الناس بالفعل، وقام الباحثون ألكسندر جينيفسكي، وليستر سي تونغ، وبريان كنوتسون بمراقبة نشاط الدماغ لدى 80 مشاركًا أثناء مراجعتهم لحملات التمويل الجماعي ومقاطع الفيديو على يوتيوب، وركزوا على منطقة في الدماغ تُسمى النواة المتكئة (NAcc)، المرتبطة بالمكافأة والتوقع.
ماذا كانت نتائجهم؟
كانت استجابات أدمغة المشاركين مؤشرات قوية على مدى نجاح المنتجات أو المحتوى في الواقع، وعند مقارنة نتائج هذه العينات الصغيرة بمجموعات بيانات أكبر بكثير على الإنترنت، ظهرت نفس الاتجاهات والأنماط، مما يؤكد أنه في كثير من الأحيان، يمكن للمسوقين الاعتماد على البيانات التي جُمعت من فئة معينة لتحسين استهداف اهتمامات شريحة أوسع من الجمهور، وبالنسبة للشركات والمسوقين، فإن هذا يجعل من الممكن إجراء تحليل أسرع وأكثر دقة (وحتى أرخص) للسوق وتعزيز مرونتهم عندما يتعلق الأمر بفهم وتلبية احتياجات العملاء والسوق.
العلامات التجارية العالمية تقرأ أفكارنا بالفعل
هناك بالفعل العديد من الأدوات التقنية المتطورة التي تحلل سلوكنا، مما يتيح للمسوقين فرصةً للتميز. على سبيل المثال، تُستخدم تقنية
تتبع حركة العين منذ فترة طويلة لفهم أين تتوقف عيون العملاء بشكل طبيعي أثناء تصفحهم رفوف المتاجر، ما يسمح بوضع المنتجات في مواقع مميزة. ومع ازدياد شيوع التسوق الإلكتروني، أصبحت البيانات التي يتم جمعها حول مكان تحرك مؤشر الفأرة على الصفحة أو سرعة تصفح المستخدم للمنتجات، تُزوّد تجار التجزئة برؤى قيّمة حول المنتجات أو الخدمات التي تجذب اهتمام المستهلكين.
ويبدو جمع بيانات الدماغ، في هذا السياق، خطوة طبيعية تالية، إذ تقوم فحوصات تخطيط كهربية الدماغ (EEG) بتتبع نشاط موجات الدماغ في الوقت الفعلي، مما يوفر للمسوقين رؤية مباشرة للاستجابات العاطفية واللاواعية للمنتجات والإعلانات والتجارب، وغالبًا ما تكشف عن تفضيلات العملاء التي تغفلها الأساليب التقليدية مثل الاستبيانات، ولا تكتفي العلامات التجارية الكبرى بمراقبة هذا المجال، بل تستثمر فيه بالفعل، حيث تستخدم
شركة كوكاكولا فحوصات تخطيط الدماغ الكهربائي وتحليل تعابير الوجه لتحسين إعلاناتها بناءً على الاستجابات العاطفية منذ أكثر من عقد.