ملفات وتقارير

حين تتحول براميل الوقود إلى سلاح.. كيف تخنق الجماعات المسلحة عاصمة مالي؟

طوابير البنزين في باماكو.. مشهد يومي لأمة تختنق تحت الحصار - الأناضول
تواجه مالي واحدة من أخطر أزماتها منذ سنوات، مع تصاعد الهجمات المسلحة التي تنفذها جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" المرتبطة بتنظيم القاعدة، في ظل أزمة وقود خانقة تهدد بشل الحياة اليومية في العاصمة باماكو، وسط إشارات إلى تحول في الموقف الأمريكي تجاه الحكومة العسكرية.

ففي خطوة لافتة، أجرى كريستوفر لاندو، مساعد وزير الخارجية الأميركي، الثلاثاء الماضي، محادثات مع وزير الخارجية المالي عبد الله ديوب، تناولت التحديات الأمنية التي تواجه البلاد والمنطقة، في ظل تصاعد نشاط الجماعات المتطرفة.

وقال لاندو في منشور على منصة "إكس" إنه يقدر "جهود القوات المسلحة المالية في مواجهة الجماعات الإرهابية، وعلى رأسها جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، مؤكدا تطلع بلاده إلى "مزيد من التعاون مع باماكو".

وتعد هذه التصريحات مؤشرا على تحول علني في سياسة واشنطن تجاه الحكومة العسكرية في مالي، بعد سنوات من التوتر الدبلوماسي والتباعد بين الجانبين.

وجاءت تصريحات لاندو بعد أيام فقط من قرار الخارجية الأمريكية إجلاء موظفي سفارتها غير الأساسيين وعائلاتهم من العاصمة باماكو بسبب تدهور الأوضاع الأمنية.


غويتا يحذر من تفاقم أزمة الوقود
وفي الداخل، خرج رئيس المرحلة الانتقالية في مالي، العقيد أسيمي غويتا، عن صمته محذرا من تداعيات أزمة الوقود التي تعصف بالبلاد، وداعياً المواطنين إلى ترشيد الاستهلاك في ظل هجمات متكررة تستهدف شاحنات الإمداد.

وقال غويتا خلال تدشين منجم لليثيوم جنوبي البلاد: "من اعتاد الخروج بالسيارة أو الدراجة عدة مرات في اليوم عليه أن يدرك أننا نمر بمرحلة صعبة، تتطلب تقليص التنقلات غير الضرورية."

كما حذر من المضاربة وإعادة بيع الوقود بأسعار مرتفعة، واعتبر أن مثل هذه الممارسات "خدمة مجانية للعدو"، في إشارة إلى الجماعات المسلحة التي تشن هجمات على طرق الإمداد.

وتعتمد مالي بشكل شبه كامل على واردات الوقود من السنغال وكوت ديفوار، ما يجعل خطوط الإمداد هدفا إستراتيجيا للهجمات المسلحة. وقد أدت الاعتداءات المتكررة إلى خسائر بشرية واحتراق شاحنات، رغم مرافقة الجيش القوافل وضربه مواقع للمسلحين.


حصار اقتصادي متصاعد
ووفق وكالة "أسوشيتد برس"، فإن جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" فرضت منذ أيلول/سبتمبر الماضي حصارا خانقا على واردات النفط إلى مالي، مما أدى إلى شل قطاعات واسعة من الاقتصاد. وأشارت الوكالة إلى أن الناس يصطفون لساعات أمام محطات الوقود، في مشهد يعكس عمق الأزمة.

ويقول جيمس بارنيت، الباحث في معهد هدسون الأمريكي المتخصص في الأمن الإفريقي، لوكالة "أسوشيتد برس٬" إن الجماعة "تضغط الآن على المفاصل الاقتصادية للبلاد بطريقة تذكر بنهج طالبان في أفغانستان".

وأضاف أن "تصاعد شدة الحصار على الوقود، وامتداد العمليات نحو أطراف العاصمة، يشيران إلى طموحات أكبر للجماعة التي قد تسعى إلى السيطرة السياسية على البلاد".

أما صحيفة "وول ستريت جورنال" فقد نقلت عن مسؤولين محليين وأوروبيين أن الجماعة باتت "قريبة من السيطرة على العاصمة باماكو"، رغم أنها "قد تنتظر بعض الوقت قبل اتخاذ خطوة حاسمة".

وذكرت الصحيفة أن قطع طرق الإمدادات الغذائية والوقود عن العاصمة أضعف قدرة الجيش المالي على التحرك والرد، مما جعل الوضع الأمني أكثر هشاشة.

تراجع النفوذ الفرنسي 
تعود جذور الأزمة الراهنة إلى إخفاقات متراكمة منذ أكثر من عقد. ففي عام 2013 تدخلت فرنسا عسكريا عبر عملية "سرفال" لدحر المسلحين من شمال مالي وإنقاذ الحكومة. 

غير أن العمليات الفرنسية اللاحقة، ولا سيما "برخان" و"تاكوبا"، واجهت انتقادات واسعة بسبب استمرار تدهور الأوضاع الأمنية.

وفي عام 2022، أعلنت فرنسا وشركاؤها الأوروبيون وكندا انسحابهم من مالي بسبب تدهور العلاقات مع المجلس العسكري، مؤكدين أن "الشروط السياسية والقانونية لم تعد متوفرة" للعمل هناك.

وبعد الانسحاب الفرنسي، حاولت باماكو تعزيز تحالفاتها الإقليمية ضمن "تحالف دول الساحل" الجديد، لكنها وجدت نفسها أمام تحديات أكثر تعقيدا، إذ تمددت الجماعات المسلحة إلى مناطق جديدة في النيجر وبوركينا فاسو، بل وبدأت تهدد دولا أكثر استقرارا مثل بنين وتوغو وغانا على ساحل خليج غينيا.


من يقود الجماعة وما قوتها؟
تعد جماعة نصرة الإسلام والمسلمين فرع تنظيم القاعدة في الساحل الإفريقي، وقد تأسست عام 2017 إثر اندماج عدة فصائل أبرزها أنصار الدين وكتيبة ماسينا.

ويترأس الجماعة إياد أغ غالي، الزعيم الطوارقي البارز من شمال مالي، فيما يعد أمادو كوفا، قائد كتيبة ماسينا، أبرز مساعديه.

ويخضع كلاهما لعقوبات من الأمم المتحدة، بينما أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في حزيران/يونيو 2024 مذكرة توقيف بحق إياد أغ غالي بتهمة ارتكاب انتهاكات جسيمة خلال سيطرة الجماعات المسلحة على تمبكتو بين عامي 2012 و2013.

وتقدر قوة الجماعة ببضعة آلاف من المقاتلين، لكنها تعد الأكثر فاعلية وتنظيما في منطقة الساحل، متقدمة على نظيراتها من الجماعات المرتبطة بتنظيم "داعش".

وقد تبنت الجماعة هجمات واسعة النطاق، أبرزها الهجوم الذي استهدف قوات بنين في نيسان/أبريل الماضي وأسفر عن مقتل 54 جنديا.


هل العاصمة باماكو مهددة بالسقوط؟
رغم أن احتمالات شن هجوم مباشر على العاصمة لا تبدو وشيكة، فإن الجماعة نجحت في خنق باماكو بأساليب غير تقليدية. فمنذ بداية الحصار على قوافل الوقود، أحرقت عشرات الشاحنات قرب مدينة كاييس على الطريق الرابط بين السنغال والعاصمة.

ويرى مراقبون أن هذا النوع من الحصار الاقتصادي قد يكون أكثر خطورة من العمليات العسكرية المباشرة، لأنه يضرب البنية التحتية الحيوية للبلاد ويستنزف الجيش في محاولاته لحماية طرق الإمداد.

تجد مالي نفسها اليوم في مرحلة دقيقة ومفصلية: أزمة وقود خانقة، تصاعد في وتيرة الهجمات، وعلاقات متوترة مع القوى الغربية.

وفي ظل ذلك، يرى محللون أن تصريحات لاندو الأمريكية تمثل محاولة جديدة لإعادة بناء الجسور بين واشنطن وباماكو، في وقت تحاول فيه الإدارة الأمريكية استعادة نفوذها في الساحل الإفريقي بعد الانسحاب الفرنسي والروسي النسبي من المشهد.

لكن التحدي الأكبر، كما يقول المراقبون، يبقى داخليا، إذ تواجه الحكومة المالية اختبارا حقيقيا لمدى قدرتها على الحفاظ على تماسك الدولة ومنع الانهيار في مواجهة جماعة تسعى إلى فرض نموذج "إمارة" إسلامية في قلب غرب إفريقيا.