سارت العلوم
العسكرية والاستراتيجيا في تحديدها للنصر مسارا شائكا، وتأرجحت المدارس العسكرية (لا
سيّما الغربية) في تعريف
النصر وتحديده. تبّنت أبرز قوى الهيمنة الدولية والتسلط
نظرية
القوّة المرتكزة على العناصر المادية في تحليل وتفسير واستشراف العلاقات الدولية وموضوعاتها،
وفي مقدمها موضوعة
الحرب التي حازت على اهتمام استثنائي (ضمنا النصر والهزيمة). لم
تُعر قوى الهيمنة هذه كثير اهتمام للنظرية المقابلة لقوى المقاومة والتحّرر، فبالنسبة
لهؤلاء لا أثر ملموسا أو محتسبا ومكمما للحق والعدل والإرادة والمشروعية، ولا حتى الشرعية
القانونية. الأصل من وجهة نظرهم معادلات القوّة وموازين القوى، وليس الحديث في المشروعية
أو القانونية أو غيرها أكثر من وسيلة يلجأ إليها الضعيف.
لم يقتصر الأمر
عند أصحاب هذه النظرة من قوى الهيمنة أن تجاهلوا نظريات جغرافيا المقاومة النقيضة لهم،
بل ذهبوا لرفض أي آخر حتى ضمن حضارتهم. فتلك الرؤية التي صارت تسمى في القرن الماضي
بالمدرسة الواقعية تراها أقصت عن الساحة حتّى آراء ومدارس وضعية أخرى، وجعلت حضورها
مقتصرا على الجدالات الأكاديمية التخّصصية في أفضل الأحوال؛ ربما لأن هذه المدارس لديها
نظرة مختلفة عن الواقعية في تعريفهم لمعنى القوّة وحدودها وعناصرها وعواملها، وكيف
يتم البناء الاجتماعي والسياسي الدولي والعالمي، كالمثالية والبنائية والإنكليزية والتعّددية
والبنيوية وحتّى بعض النسوية.
بالعودة لموضوعة
الحرب باعتبارها أحد أبرز موضوعات العلاقات الدولية كما قدمتها الواقعية (دون أن ينسى
القارئ أن الواقعية هي أيضا أيديولوجيا ونظرة مسبقة وتصور للعالم وما فيه، ترى العالم
الخارجي عالم فوضى وتوّحش وأشبه بغابة).
في القرن الماضي
شهدت العلوم العسكرية تطورات في استكشاف محددات النصر والهزيمة ربطا بتجارب العقود
الأخيرة، آخر الآراء عند المدارس العسكرية رأى أن النصر يتحقق بمقدار القدرة على تقديم
خطاب وسردية مقنعة أكثر من العدو، وقبلها تحدثت بعض المدارس بأن تحقيق الأهداف الاستراتيجية
هو المحّدد وليس التكتيك، وذهبت ثالثة للحديث عن كسر إرادة العدو وإخضاعه وليس فقط
الانتصار العسكري عليه، ورابعة ميزت بين الخسائر العسكرية وفقدان التوازن، فالأخير
هو المهم. وهناك من يرى أن كل الحروب تحقق أهدافها بمقدار ما تزيد من نسبة الوعي العالمي
للعدالة والإرادة للتحرر، فكل حرب تكون نتيجتها دفع نظرية التحرر والعدالة قدما وتبنيهما
عالميا كخيار إنسانيّ تكون في جوهرها انتصارا.
أمّا بالنسبة
للاقتصاد كأحد أدوات الصراعات وعدّة الحروب المستخدمة بقوة اليوم من رواد المدرسة الواقعية،
فاصطدم بـ"صمود" في الخصم و"التكيف" بتحويله إلى فرصة أحيانا،
ويعود ذلك إلى أنّ تعريف الرضى والسعادة والكرامة بين المجتمعات أمر متفاوت، وأيضا
طبيعة ونوعية الشعوب والمجتمعات وثقافاتها، إذ إن بعضها قد ينقل الضغط إلى فرصة للاعتماد
على الذات بدل الانصياع.
إنّ هذا التذبذب
والافتقار في القدرة على التعريف لمعنى النصر والهزيمة ونجاعة الأدوات لا يرتبط بعجز
تخصصي عسكري أو عجز عقول اقتصادية، بقدر ما هو أبعد من ذلك وأعمق، إنه عجز في إدراك
نوعية التحّولات التي أصابت كل شيء من حولنا، فجعلت المفاهيم المستخدمة ماضوية وكذلك
المصطلحات، فهي لا تستجيب للوضعيات الجديدة والتحول والتأرجح الذي يضرب عالمنا.
إذ ذاك، كانت
الدولة هي النموذج العقلاني المؤسسي، وكان للأمن تعريفه المحدد، وكان للأمن إزاء الخارج
مؤسسته وللأمن إزاء الداخل مؤسسته، وللسياسة مؤسستها وللقضاء مؤسسته، كذلك الاقتصاد
وللرأي العام، وكانت الدولة هي مؤسسة المؤسسات. لقد كانت خطوط التمييز واضحة، وكان
ينظر للمجتمع من منظور مجموع مجتمعات جزئية متمّيزة الأدوار والوظائف، بينما اليوم
لم يعد بمقدورنا أن نفرّق بشكل واضح بين الداخلي والخارجي، ولا بين المدني والعسكري،
ولا بين الحدود الجغرافية والحدود السياسية أو الثقافية، ولا بين الاستخدامات المدنية
والعسكرية للتقانة، ولا بين الخصوصية التعليمية وتلك الأمنية، ولا بين وبين.. الخ،
أصبح العالم أكثر تداخلا وتعقّدا وتراكبا، وابتعدت الدولة عن أن تكون صيغة بيروقراطية
عقلانية نظامية كلاسيكية، ولم تعد الفواعل هي تلكم التقليدية -أي الدولة- فحسب، بل
صرنا أمام مجموع متزايد ومرّكب ومتداخل ومتوالج من الفواعل. أما التحليل السياسي بالمنظومة
(وحدة الدولة فالنظام الإقليمي فالنظام الدولي)، فلم يعد ملبيا، ولم يعد أمرا بسيطا
تحديد الفعل السياسي ودائرته -وطنية إقليمية دولية- فتداعيات الفعل السياسي التي قد
يقوم بها فرد بمفرده صارت أحيانا تتجاوز الحدود الوطنية، وقد تؤثر إقليميا وعالميا
بمعزل عن نيته، فالعلاقة بين القصد والأثر أصبحت غير متناسبة أحيانا.
ولم تعد دعاوى
أن الدولة أنتجت النظام الدولي أو أنّ النظام الدولي أنتجها شافية في إجاباتها، لقد
ظهر أنّ العمليات الاجتماعية أعقد من ذلك بكثير، والتقسيم الذي نتخّذه هو اعتباري أكثر
منه حقيقي وواقعي.
لذلك نقول
إن التحولات التي تصيب عالمنا تعاني من خطورة التعاطي معها بسببية "خطية"
كما تعمد المدرسة الواقعية، ففي ذلك اختزالية تعمينا عن رؤية الواقع وتفسيره بحقيقته.
في هذا العالم
لا يصّح أن نرى الواقع بعيون مدرسة واحدة فقط، ولا أن يفرض علينا "المهيمن واللص"
منظوره لتقييم وتفسير الأمور؛ لأنه قد يتداعى عن ذلك تقييد تفكيرنا وإدخالنا في شرنقة
العجز والإحباط، بحيث نتيه عن الفرص وعن نقاط قوتنا، فالمنظورات ومناهج تفسير الواقع
لها أهّم الأثر في فهمنا لذواتنا ومقدراتنا وتحديد تموقعنا والتعاطي مع المستقبل.
إنّ أحد تحدّيات
عالمنا العربي ونخبه هو تبنّي منظور المدرسة الواقعية وإهمال حتى تلكم المدارس الوضعية
التي تتقدّم اليوم في الغرب، ناهيك عن إهمالهم للمدرسة الدينية ومذهبها السياسي في
تفسير للصراع والواقع والمستقبل، وكذلك نظرية المقاومة التي تطرحها جبهة المقاومة وفق
فهم معين للدين والإنسان، فهل يا ترى هم جربوا منظورات لغير المدرسة الواقعية وفشلوا؟!
إن الهيمنة
التي تصيبنا هي هيمنة ثقافية فكرية قبل أي شيء، تجرنا لقيد إلى قيد. نعم، إنّ المثالية
والبنائية والانكليزية وغيرهم كلها مدارس وضعية وهيمنية، لكن يمكن أن نستفيد من زوايا
منها كونها لا ترى العالم من منظور القوة المادية (عسكرية وتقنية واقتصادية) فقط، بل
يعطون "المعيار والقانونية والخطاب والهوية والبناء الاجتماعي" أهمية كما
القوة المادية، ويمارسون قراءة نقدية للواقعية ويستشهدون بما يكفي من المُثلات من التاريخ
الحديث إلى واقعنا المعاصر لتفكيكها. بالنسبة لهذه المدارس، فإنّ التزام المعيار
أو إنتاج الشرعية القانونية وإيجاد القبول هو أساس، وإلا تبقى القوة تعيش تحّدي الصراع
وتبقى الطاعة تعيش تحدي القبول، أي أن تستحيل واجبا وقبولا. فأي جهة لا تستمد الشرعية
من المعيار (كالقانون) تكون إكراها ولا تعرف الاستقرار الذي هو الغاية حتى للمهيمن.
يبقى هناك
ما يمكن الحديث عنه حول نظرية التعقد التي هي محل اهتمام كبير في الغرب، ونظرية المقاومة
التي نومن بها، وهما ما نتركهما لمقال ثان.
في الختام،
لأنّ معركة مصيرية ومعقدّة وربما الأعقد في تاريخ صراعنا مع الصهيونية وحكومات الغرب،
ولأنّها لم تعد معركة جماعة أو فئة بعينها بل صارت معركة جغرافيا التحّرر والمقاومة،
ولأنّها لم تنته بعد ولا زالت في أوجها، وأفقها ومستقبلها مفتوح على كل احتمال، لذلك
نحتاج عاجلا لنعيد النظر بأدوات التحليل ومنظوراتها، وعكسها في خطابنا العام وإعلامنا
وبناء سرديتنا، فلا نكون أعداء أنفسنا فنقتلها بالإحباط وبالتفسير غير الواقعي باسم
الواقعية، فنغفل عن نقاط قوّتنا ونروّج للسردية الأخرى ولمنطقها، بينما نحتاج في هذه
اللحظة المصيرية وعلى ضوء ما أظهرته مجتمعاتنا المقاومة من صمود أسطوري وثبات ومن أيّدها
وناصرها في العالم، نحتاج لمطالعة نقدية لما بين يدينا من مدارس الغرب ونبحث أكثر في
نظريتنا لنستفيد منها وتوظفها لخدمة كرامة مجتمعاتنا وكل المجتمعات في عالم اليوم؛
التي هي تأن من هذا النموذج الهيمني غير المسبوق في خطره على الإنسانية جمعاء ومستقبلها.