قضايا وآراء

حول مستقبل النظام الدولي.. احتمال الفوضى أو النظام

"مؤشرات السياسة اليوم تؤكد أن أمريكا تترقب بقلق وبتوتر العالم الجديد المتولد، غير قادرة على إيقافه"- الأناضول
تكثر الكتابات عن مستقبل "النظام الدولي"، يغلب عليها استهلاك المصطلحات، وتارة يتم الحديث عن نظام متعدد الأقطاب، وطورا آخر إقليمي البنية، مشتت القوة أو بلا قطب، وغير ذلك، لكن تبدو قليلة هي الكتابات عن عالم قد يُسلّم زمامه للفوضى!

إن النقاش في النظام الدولي المقبل يعاني ما تعانيه نقاشات ومجادلات نظريات العلاقات الدولية وتخندقات منظريها، وقلة هم أولئك الذين يقبلون أننا في عالم معقد قد نكون أحوج فيه لمقاربات ونظريات أكثر جدة تنطلق من كل موضوع وبحسبه، بدل تلكم الاختزالية الحاكمة وذات التفسيرات الخطية. فمثلا هل حديثنا عن تعدد الأقطاب هو نفس ما عرفته أوروبا إبان القرن التاسع عشر؟ وهل الدولة القومية ستكون ركيزة فهم المستقبل، أم أنها ستخضع لتعديل أم أن فواعل جديدة ستدخل في صناعة المستقبل إلى جانب الدولة؟ هل سنكون أقرب لنظام عالمي ومجتمع عالمي أم لنظام دولي (حتى لو معدل)؟ وغيرها الكثير من الاسئلة التي تحتاج لمزيد من الجهد النظري خصوصا من قبلنا (نحن الشعوب التي تتطلع إلى دور لها ومكانة في العالم المقبل).

ليس أدل على اقتراب الولادة ما بلغته سياسات المحور الأمريكي- الإسرائيلي الغربي من استهانة بالأعراف والقواعد والمعاهدات وتجاوزها بسفور وإعلان نقضها على الملأ والمجاهرة بأنها لم تعد تناسبه وتناسب مصالح أعدائه وخصومه

ولا ننكر ما للمرحلة الانتقالية الجارية وموجتها الأشد قساوة أو موجتها القصوى التي نواجهها؛ من دور كبير في تحديد الصورة المستقبلية والإجابات على الأسئلة. لقد صار بناء تصور منا كقوى ناهضة أو قوى مقاومة ثبتت حتى الآن وصمدت رغم هول الصراع وضراوته ووحشيته؛ ملحّا -ولو نظريا- وضرورة فعلية وليس ترفا!

فالمؤشرات تتزاحم باقتراب ولادة العالم الجديد، وهناك من يقرأ أن 7 أكتوبر وطوفان الأقصى هي بمثابة لحظة تاريخيّة وأقرب لبداية الشهر الأخير ما قبل الولادة. وليس أدل على اقتراب الولادة ما بلغته سياسات المحور الأمريكي- الإسرائيلي الغربي من استهانة بالأعراف والقواعد والمعاهدات وتجاوزها بسفور وإعلان نقضها على الملأ والمجاهرة بأنها لم تعد تناسبه وتناسب مصالح أعدائه وخصومه.

وفي المقابل من المحور الأمريكي، يمكن مراقبة ما بلغته القوى الصاعدة في سيرها، والذي تجلى بالأمس في قمة شنغهاي، حيث كان بيانها اقرب إلى إعلان أولي عن لحظة قد أزفت وسيكون لها تأثيرها في تحديد طبيعة العالم الجديد وخصائصه، ناهيك عن تظاهرات شعبية تجتاح أوروبا وأمريكا وأستراليا وكثيرا من المجتمعات تأييدا ودعما لحق غزة وفلسطين بالحياة والكرامة وتنديدا ونبذا لـ"دولة" إسرائيل؛ حتى من جماعات يهودية خرجت مؤخرا عن صمتها (مؤخرا نظم مؤتمر لليهود في فيينا تبرأوا فيه من إسرائيل واعتبروها دولة فصل عنصري وتمارس جرائم ضد الإنسانية)، ما يشير إلى أن البنية الفكرية والنفسية والأخلاقية للمجتمعات في الغرب تدخل تبدلا عميقا، ولم تعد تلكم التي أنتجتها أدبيات الحداثة واستحكمت بالعقل الغربي وأغرته لعقود، وعندما تبدأ الأفكار والإدراكات تتبدل فهذا يعني أن التغيير السياسي يشّق طريقه باضطراد.

إذا، العالم دخل شوط التحول الأخير، وما يحصل في منطقتنا هو إيذان ومؤشر لنوعية الغد وطبيعته. رغم كثرة الأطروحات حول النظام الدولي المقبل، لكن أفترض ضرورة أن نقسمه وفق احتمالين كبيرين بدل الاستغراق في احتمال واحد، وهما: الانتقال إلى الفوضى أو الانتقال إلى النظام؟ وبمعزل عن شكله ومضمونه، هل سنكون أمام عالم فيه حد أدنى من الانتظام والنظام؛ يأخذ بالعدالة والتنوع ويؤمن بالدولة ككيان نهائي، أم عالم التوسع والاستقواء والعبث بالثوابت حيث الهيمنة وغياب أي اعتبار فيزيائي أو أخلاقي؟

الصراع مستعر وسيزداد استعارا في المرحلة المقبلة ولن يتوقف، سنن التاريخ أنبأت بأنه ما من إمبراطورية وقوة هيمنة سلمت زعامتها طوعا واعترفت بعجزها عن الاستجابة للتغيرات، بل دوما كانت تتنكر للواقع وتصر على معاكسة التاريخ حتى لو كانت كلفة ذلك باهظة على الإنسانية وعليها، ولن نكون الإمبراطورية الأمريكية خارج هذا المدار بل قد تكون الأخطر بين قوى الهيمنة في التاريخ!

لماذا احتمالية الفوضى تبقى قائمة وفعلية؟ لأنّ أمريكا لا تقوى اليوم ولن تقوى غدا على أن تقدم رؤية وتصورا للعالم جديد، لم تعد لديها قدرة إنتاج لغة وخطاب ومضمون حضاري بنّاء، لم تعد منتجة للفكرة، تراجعت قوة جذبها واختّل نموذجها (أو عاد إلى طبيعته الأولى)، ليست قادرة على استجابة فعالة لمشاكل البشرية في أي من مجالات الحياة، لم يعد في حوزتها إلا لغة القوة وإنتاج الفوضى وشريعة الغاب والبقاء للأقوى!! ولن يكون أمامها إلا التأسيس لعالم الفوضى واللانظام.

لذلك، الصراع الجاري اليوم في هذه المرحلة الانتقالية في أبرز وجوهه هو بين اتجاهين ورؤيتين، الأول يرى أن أصل فكرة وجود "نظام" للعالم معيق ويحد من سلطان القوة، فصياغة موضوعة النظام تحتاج إلى أدبيات لم تعد متوافرة في أمريكا الجديدة كما سبق في القرن الماضي، فأمريكا الحقيقية هي التي أمامنا اليوم؛ تعتقد بإطلاق القوة وشرعية القوة المفرطة بل ترى القوة مصدر الشرعية الوحيد. أما الاتجاه الثاني فيصر على أهمية وجود النظام ويرى ضرورة إصلاح الموجود بدل نسفه ونبذه أو إعادة إنتاج نظام جديد ويمتلك من التنوع والثقافة والأدبيات ما يخوله لذلك.

العالم دخل شوط التحول الأخير، وما يحصل في منطقتنا هو إيذان ومؤشر لنوعية الغد وطبيعته. رغم كثرة الأطروحات حول النظام الدولي المقبل، لكن أفترض ضرورة أن نقسمه وفق احتمالين كبيرين بدل الاستغراق في احتمال واحد، وهما: الانتقال إلى الفوضى أو الانتقال إلى النظام؟

في مقاربة النظام تحتاج إلى معايير وقيم ومبادئ، أما في الثاني فتحتاج فقط إلى القوة وفرط استخدامها، في الأول تحتاج إلى إرادة حل الصراعات والأزمات بينما في الثاني تحتاج إلى عقلية إدارة الصراعات وتمديدها.. في الأول تحتاج إلى الاعتراف بالتنوع والعدالة، أما في الثاني فتحتاج إلى العقلية الطاردة.. في الأول تحتاج إلى التاريخ وعبره وإلى الوقائع الثابتة والحقائق لتبني عليها، بينما تحتاج في الثاني إلى القطع مع الماضي وإلى صناعة الوهم والإقناع الساذج باستحالة "المستحيل". إن العالم المقبل لا يمكن اختزاله بشعارات من قبيل تعدد اقطاب أو ما شابه، هو أعقد من ذلك بكثير، والمصطلحات أو الصيغ المستحضرة اليوم تبدو قاصرةً عن مجاراة التحول العالمي المحتمل وبعضها اسير للماضي وإسقاطاته.

لذلك، فإن المواجهة المرتبطة بالعالم الجديد الذي يهم أن ينشأ؛ هي في أبرز أركانها مواجهة بين الحاجة للنظام وضرورته وبين الفوضى أو "الفوضى البنّاءة". مؤشرات السياسة اليوم تؤكد أن أمريكا تترقب بقلق وبتوتر العالم الجديد المتولد، غير قادرة على إيقافه، بل تسرع بروزه بسلوكها، وتفتقر لطرح بنائي أو بنيوي وترى أن النظام صار عبئا عليها وحاميا للضعيف كما تفهمه. لن يكون أمامها إلا سبيل الفوضى وبذر اللاستقرار في البيئات الداخلية والاستراتيجية لأعدائها وخصومها وحتى ما يسمى "حلفاؤها"، هذا هو الأمر الوحيد الذي تملك أمريكا القدرة عليه اليوم وتريد أن تفرضه للمستقبل. هي لا تملك تصورات احتوائية على طريقة خطة مارشال بعد الحرب العالمية الثانية ولا أفكار ويلسن بعد الحرب العالمية الأولى، لذلك هي ستّجد للبحث في أصولها العالمية وفي ساحات وميادين يمكن أن تكون بوابات للاضطراب الشامل والعالمي.

فهل ستكون منطقتنا في الصدارة للاستراتيجية الأمريكية؟ العميل الإسرائيلي أبرز أصولها وهو في أتم الحافزية ولم يعد لديه ما يخسره، لذلك نتوقع أن تستخدم الكيان الصهيوني إلى جانب غيره من الأصول لأبعد مدى وبلا ضوابط لتنتج فوضى، وتعلل ذلك بالحاجة لـ"توسعة إسرائيل"، لكن حقيقة إرادتها هي نشر الفوضى وصولا إلى الشرق لتعيق نهضة خصومها، حيث تتلمس العجز المتنامي عن منافستهم كما تمنت من قبل. فما يحدث في غزة إذا ما نجح هو خطوة أمريكية على طريق الفوضى الشاملة التي تريدها في منطقتنا كمعبر للعالم الجديد الذي تريده، وقد تخلق لنا مصطلحا جديدا على غرار الفوضى الخلاقة. وللكلام تتمة..