قضايا وآراء

افتتاح المتحف الكبير.. أموال الشعب تحت أقدام الفرعون

"مشروع ضخم يُروّج له باعتباره هدية مصر للعالم، بينما هو في حقيقته هدية من الشعب المنهك إلى سلطةٍ تبحث عن تصفيقٍ خارجي يطمئنها بأنها ما زالت موجودة"- التواصل الاجتماعي
بينما يقف الملايين من المصريين على حافة الفقر، تُشعل السلطة أضواء الاحتفال على واجهة جديدة من واجهات التلميع، بافتتاح المتحف المصري الكبير، المشروع الذي تحوّل من حلم ثقافي إلى نصبٍ تذكاري للإسراف والعبث بالأولويات.

فالمتحف الذي تجاوزت تكلفته ملياري دولار، لم يكن مجرد مشروع أثري أو حضاري، بل مشهد سياسي متكامل، صُمم لتلميع صورة نظام فقد شرعيته في الداخل، ويبحث عنها الآن في أعين الوفود الأجنبية وعدسات القنوات العالمية.

مليار دولار.. رقم لا يتحدث عن حضارة بل عن غفلة

في بلد يعيش أكثر من ثلث سكانه تحت خط الفقر، كان يمكن لهذا المبلغ المهول أن يغيّر وجه الاقتصاد الصناعي والزراعي في مصر.

فبأبسط الحسابات، يمكن لهذا الرقم أن يؤسس 500 مصنع صغير، يعمل بها نحو 100 ألف عامل بشكل مباشر، ويستفيد منها 250 ألف شخص بشكل غير مباشر. أي أن قرابة 350 ألف أسرة مصرية كانت ستجد قوت يومها وأمانها الاجتماعي لو أن الأولوية كانت للإنسان وليس للحجر.

ما يزيد السخرية أن أبرز المدافعين عن النظام، زاهي حواس، الرجل الذي طالما كان الصوت الرسمي لكل ما يتعلق بالآثار في مصر، قالها صراحة: "لم أكن أرى أي أهمية لإنشاء المتحف المصري الكبير، وكان يمكن الاكتفاء بتطوير متحف التحرير، ولن يعيد ما أُنفق عليه ولو بعد 500 سنة"

لكن النظام، الذي يرى في الإسمنت والرُّخام وسيلة للبقاء، قرر أن يصبّ كل ما يملك من موارد في مشروع لا يضيف شيئا لحياة المواطن سوى مشهدٍ تلفزيوني آخر من مشاهد "الإنجاز الوهمي".

مشروع ضخم يُروّج له باعتباره "هدية مصر للعالم"، بينما هو في حقيقته هدية من الشعب المنهك إلى سلطةٍ تبحث عن تصفيقٍ خارجي يطمئنها بأنها ما زالت موجودة.

زاهي حواس نفسه قالها: لا جدوى

ما يزيد السخرية أن أبرز المدافعين عن النظام، زاهي حواس، الرجل الذي طالما كان الصوت الرسمي لكل ما يتعلق بالآثار في مصر، قالها صراحة: "لم أكن أرى أي أهمية لإنشاء المتحف المصري الكبير، وكان يمكن الاكتفاء بتطوير متحف التحرير، ولن يعيد ما أُنفق عليه ولو بعد 500 سنة".

تصريحٌ كهذا لا يصدر من معارض، بل من داخل بيت النظام نفسه. إنه اعتراف ضمني بأن المشروع لا يحمل رؤية علمية ولا جدوى اقتصادية، بل يحمل توقيعا سياسيا واضحا: "أنا هنا.. أنظروا إلى عظمتي". تماما كما فعل الفراعنة حين بنوا الأهرامات بأيدي العبيد، يُعيد النظام الحديث المشهد ذاته، ولكن بأموال المواطنين هذه المرة.

الشرعية من الرخام والمجد من ورق

منذ أكثر من عقد، يعيش النظام المصري أزمة شرعية حقيقية. فهو نظام جاء على أنقاض حلم ثوري، وحاول منذ اللحظة الأولى أن يخلق لنفسه رموزا جديدة توازي رموز التاريخ. لكن حين تفشل السياسة، يلجأ الحاكم إلى الحجر، وحين يعجز عن إقناع الناس بإنجازٍ ملموس، يصنع لهم واجهة تُبهِر الكاميرات وتخدع العالم.

وهكذا تحوّل المتحف الكبير إلى مسرحٍ ضخم لإعادة إنتاج صورة "الفرعون المعاصر" الذي يملك كل شيء: السلطة، المال، والمجد المصنوع على حساب الفقر العام.

الاحتفالات.. أفيون النظام

ليس غريبا أن يأتي افتتاح المتحف بعد سلسلة من الاحتفالات والمؤتمرات الفارغة التي تلتهم الملايين دون أثر.

ففي غضون شهر واحد فقط، شهدنا احتفال شرم الشيخ لتوقيع ما سُمي باتفاق "السلام" بحضور ترامب، اتفاق لم يُثمر شيئا، وها هي غزة تُقصف من جديد. ثم مؤتمر آخر تحت عنوان "مصر بلد السلام"، في وقتٍ لا يعرف فيه المواطن سلاما مع الأسعار ولا مع الواقع المعيشي.

والآن، افتتاح المتحف المصري الكبير بدعوة وفود من كل أنحاء العالم على نفقة الدولة المصرية: تذاكر طيران، وإقامة فندقية فاخرة، وتنقلات، في الوقت الذي يلهث فيه المواطن وراء أنبوبة غاز ورغيف خبز.

النظام الذي لا يستطيع إطعام شعبه، يُطعم ضيوفه كي يصفقوا له، النظام الذي لا يجد حلولا اقتصادية حقيقية، يختلق مشاهد براقة تُغطي على العجز والفشل.

مصر التي تتجمّل وهي تنزف

هذا الافتتاح لا يُظهر مصر الجميلة، بل يُخفي مصر الجريحة. مصر التي تُعاني من انهيار العملة، وتراجع الإنتاج، وهروب الاستثمارات، وتآكل الطبقة الوسطى، وارتفاع غير مسبوق في الأسعار والفقر والديون.

فبينما تُنفق المليارات على استيراد الرخام والإضاءة والتنظيم، تُغلق آلاف المصانع الصغيرة أبوابها بسبب غلاء الطاقة وضعف السوق، وبينما تُنظم الدولة احتفالا عالميا تحت شعار "مصر تعود إلى الواجهة"، يعيش المواطن في الظل، منسيا، بلا أفق ولا كرامة ولا مستقبل.

هذا الصرح لم يُبنَ لتخليد حضارة، بل لتخليد سلطة.. أنه لم يكن انتصارا للثقافة، بل هزيمة للعقل الوطني.. أنه كان تمثالا ضخما من رخام، نُقشت عليه أسماء الممولين، لا أسماء المصريين الذين دفعوا الثمن

لقد أصبحت مصر في عهد هذا النظام دولة المظاهر؛ كل ما يلمع يُعرض على الشاشات، وكل ما يوجع يُدفن في صمت. تُرفع شعارات الوطنية بينما تُباع أصول الدولة، وتُغنّى الأغاني عن الإنجاز بينما تُهدَر مقدّرات البلد.

متحف للتاريخ أم شاهد على السقوط؟

قد يقف هذا المتحف يوما شامخا بواجهته الزجاجية المبهرة، لكن الأجيال القادمة ستقرأ ما بين الحجارة: أن هذا الصرح لم يُبنَ لتخليد حضارة، بل لتخليد سلطة.. أنه لم يكن انتصارا للثقافة، بل هزيمة للعقل الوطني.. أنه كان تمثالا ضخما من رخام، نُقشت عليه أسماء الممولين، لا أسماء المصريين الذين دفعوا الثمن.

المتحف المصري الكبير ليس مشروعا حضاريا.. بل مرآة لنظامٍ يرى نفسه فوق الناس، لا فيهم؛ مشروع سيُذكره التاريخ لا بجمال هندسته، بل بكونه رمزا لعصرٍ استُبدلت فيه العدالة بالبذخ، والتنمية بالمهرجانات، والكرامة بالصمت المفروض.

افتتاح المتحف الكبير ليس احتفالا بالحضارة، بل دفنا للأولويات الوطنية تحت الرخام. إنها لحظة أخرى من لحظات الفصام بين السلطة والشعب، بين الصورة والواقع، بين ما يُعرض للعالم وما يعيشه المصري كل يوم.

حين يُنفق النظام مليارات الدولارات على حجرٍ أصم، ويتجاهل صوت المواطن الجائع، فإننا لا نتحدث عن إنجاز، بل عن جريمة في حق الوعي والعدالة والكرامة الإنسانية.

ولذلك، سيظل افتتاح المتحف الكبير علامة على زمنٍ صنع فيه الفرعون الحديث تماثيله بنفسه، ووضع أموال الشعب تحت قدميه، ليصفق له الغرباء بينما يبكي المواطنون في صمت.