مقالات مختارة

بعد 75 عاما: ما زال الاحتلال عاجزا عن حماية نفسه

جيتي
حين يستحكم العداء لدى شخص أو جهة تتلاشى القيم الإنسانية ويتم الاستخفاف بقيمة الإنسان. وما يجري في الأراضي المحتلة مصداق لذلك. فلا يكتفي المحتل بتجويع البشر بل يبذل جهودا لمنع الآخرين من تقديم الدعم ويعرقل أعمال الإغاثة ما استطاع إلى ذلك سبيلا. فما أن حدثت المجاعة في قطاع غزّة حتى هرع بعض المنظمات الإغاثية الدولية لتقديم شيء من الدعم، وفقا للقانون الدولي الإنساني ومواثيق جنيف التي تنظم مسارات الحروب.

وقد افتعلت حكومة الاحتلال قضايا وهمية لعرقلة المعونات، وأصدرت العام الماضي اتهامات لمنظمة الأونروا بأن بعض موظفيها ينتمي لحركات المقاومة الفلسطينية. ونظرت محكمة العدل الدولية في تلك الاتهامات بشكل دقيق ومفصّل، وبذل موظفوها وخبراؤها القانونيون جهودا لمعرفة حقيقة تلك الادّعاءات.

وفي النهاية توصلت المحكمة إلى نتائج مهمّة على رأسها عدم وجود أية أدلة على انتهاك الأونروا مبدأ الحياد أو ممارستها التمييز في توزيع المساعدات. مع ذلك ليس متوقّعا أن تذعن «إسرائيل» لذلك الاستنتاج الذي يمنعها من عرقلة جهود الإغاثة. فهي تسعى لاستخدام الطعام سلاحا في المعركة ضد غزّة وأهلها بعد أن عجزت آلتها العسكرية عن القضاء على المقاومة. والواضح أنها لم تكتف بتحويل المنطقة إلى ركام ودمار لم ير العالم له مثيلا منذ الحرب العالمية الثانية، بل تسعى لضمان الهيمنة المطلقة من خلال كسر إرادة من يصرّ على رفض الاحتلال ويقاومه.

بعد أن تفاقمت أزمة الغذاء والدواء، أصبحت مهمة التصدي لذلك مسؤولية دولية تملي على الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي القيام بإجراءات لمنع وقوع الكارثة. وهذا يتطلّب إذعان أمريكا لهذه المهمة بدلا من صب الزيت على النار وزيادة معوناتها العسكرية والمالية لـ «إسرائيل».

وفي الأسبوع الماضي اعتبرت الخارجية الأمريكية في بيان رسمي، أن القرار الصادر عن المحكمة ينتقد إسرائيل بشكل ظالم، ويمنح الأونروا حرية كاملة في مواصلة «علاقتها الوثيقة مع الإرهاب» الذي تمارسه حركة «حماس» وتقديم الدعم المادي لها. وما الذي تريده «إسرائيل» أكثر من هذا التصريح لكي تشدّد المنع الذي تفرضه على منظمات الإغاثة؟ فمتى سيتصرف دونالد ترامب كرئيس يحمي مصالح أمريكا وليس «إسرائيل»؟

عندما تظهر صور معاناة أهل غزة على شاشات التلفزيون، وتظهر آثار المجاعة على أجساد أطفالها، تتلاشى مشاعر الاحترام لمن كان السبب في ذلك. فهذا مناقض لأبسط المبادئ الإنسانية التي تحرّك مشاعر الرغبة في إغاثة الملهوف وإطعام الجائع.

فما بال إنسان هذا الكوكب تتلاشى مشاعره فلا تهزّه مشاهد الجياع والمرضى والذين يعيشون في العراء. فلم تبق موبقة إلا ارتكبها الإسرائيليون بحق أهل غزّة، حتى أصبح هناك أكثر من مليونين من البشر يعيشون في العراء يستظلون الشمس ويفترشون الأرض، بعد أن حوّل الاحتلال منازلهم إلى أكوام من حطام.

ولم يكتف المحتلون بذلك بل فرضوا على المنطقة حصارا شاملا في البر والبحر والجو، فلا يستطيع أحد كسر الستار الحديدي المقيت. وعندما تحرّكت ضمائر البشر من كافة أصقاع الأرض ونظموا قوافل إغاثة عن طريق البحر كانت البحرية الإسرائيلية بانتظارهم لتصادر قواربهم وتعتقل من فيها وتنكّل بهم. حدث ذلك ليس سرّا بل أمام عدسات التلفزيون بشكل مباشر. حتى أصبح العدوان الإسرائيلي هذه المرّة من أكثر الوقائع التاريخية توثيقا ووضوحا. برغم ذلك ما تزال قلوب الكثيرين متكلّسة، قد ران عليها العمل القبيح.
وثمة مفارقات واضحة في المواقف الدولية إزاء معاناة أهل غزّة. ويبدو الأقربون أقل اهتماما من الأجانب

وثمة مفارقات واضحة في المواقف الدولية إزاء معاناة أهل غزّة. ويبدو الأقربون أقل اهتماما من الأجانب، الأمر الذي يستدعي قراءة موضوعية لمعان ومفاهيم كثيرة ترتبط بالأخوّة والإغاثة والعون والإحساس بمعاناة الآخرين، والموقف المسؤول تجاه المستضعفين. إن هناك مفاهيم إنسانية وإسلامية ترتبط بقضايا الجوع والإغاثة والدفاع عن المستضعفين، يُفترض أن تدفع الكثيرين للإسراع بالقيام بما هو واجب أخلاقي وإنساني، والتخلّي عن نوازع الأنانية. لو حدث ذلك لما استطاع الاحتلال الاستمرار في محاولات كسر شوكة الصامدين. فهو يستخدم التجويع سلاحا فاعلا في ما يعتبره «حربا وجودية» وأن استمرارها أكثر من ثلاثة أرباع القرن يعني عدم قدرته على الاستمرار في أساليب القمع العسكرية فحسب. وبعد تجارب العقود الثمانية الماضية أصبح الفلسطينيون قادرين على الصمود بوجه الاحتلال، بما لديهم من إرادة إنسانية ومشاعر حبٍّ للوطن، وإيمان بحتمية استرداد الحقوق والهويّة والوطن.

وهنا تدخل الأهداف السياسية الشخصية للمسؤولين كعامل في توسيع دائرة الحرب أو إطالة أمدها لأنهم يربطون نهاية دورهم السياسي بنهايتها. ورئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه يعلم أن توقف الحرب سيتيح الفرصة لمقاضاته بشأن فساد مالي وسياسي رفعت حوله قضايا قضائية. ولكي يبقى في منصبه يسعى لاستمالة العناصر المتطرفة بتشديد الخناق على الفلسطينيين وانتهاج سياساته الحالية المتطرفة. فلا يمكن استيعاب دوافعه لمنع أونروا من الاستمرار في تقديم الإغاثة إلا ضمن استراتيجية واضحة لدى المسؤولين الإسرائيليين باستئصال الشعب الفلسطيني ليس بالقتل والتشريد فحسب، بل بتقليص ما يحتاجه من خدمات ومنها التعليم والتطبيب بالإضافة للغذاء.

وتمثل المنظمات الإغاثية خط الدفاع الأخير لإيصال تلك المساعدات للفلسطينيين المشرّدين في المخيّمات والعراء وفي شوارع غزّة ومبانيها المدمّرة. وكان الاحتلال يراهن على مسألة جوهرية: أن تدمير غزّة بالشكل الذي حدث سيكون رادعا لأهلها عن العودة. وما أكثر ما ردّد الأمريكيون القول باستحالة إعادة إعمارها، حتى قال بعضهم إن ذلك يحتاج ثلاثين سنة. والهدف من تلك التصريحات كسر إرادة البقاء لدى أهلها.

وقد مارس الأمريكيون ضغوطا على الدول العربية لاستقبال اللاجئين لمنع المطالبات المتصاعدة لإعادتهم إلى أرضهم. وحسنًا فعلت الدول العربية التي أدركت مغزى الخطّة وأنها ليست نابعة من مشاعر إنسانية بل لأهداف سياسية. فإذا استوطن اللاجئون في البلدان العربية الأخرى فسوف تنتهي الضغوط على المحتلّين الذين كانوا يأملون بضم الضفة إلى كيان الاحتلال. وكانت الضفة الغربية هي الأخرى مهددة بالضم، ولكن الضغوط العربية كان لها أثر على قرار الرئيس الأمريكي الذي قال إنه ليس مع فكرة الضمّ.

وهكذا تبدو الحرب الحالية عبثية وإجرامية بامتياز. فلم ينجم عنها سوى قتل الأبرياء وأغلبهم من النساء والأطفال، بدون أن يكون لذلك مردود استراتيجي. وعلى العكس من ذلك، فقد توسعت دائرة الغضب الدولي على «إسرائيل» حتى أصبحت مقلقة لمفكري الاحتلال وقادته.

في الشهر الماضي حذر الكاتب الإسرائيلي بن درور يميني في مقال له في صحيفة يديعوت أحرونوت مما وصفه بـ«الدعاية السيئة» التي تتقنها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بسبب أنها تحقق نجاحا هائلا وتجرّ إسرائيل إلى عزلة دبلوماسية ومقاطعة آخذة في الاتساع، ويعتبر أن حكومة بنيامين نتنياهو بتجاهلها للضرر الدولي العميق، تدفع بإسرائيل نحو انهيار خطير على أكثر من صعيد.

وكان مشهد الزعماء الذين حضروا افتتاح الدورة الأخيرة للجمعية العمومية للأمم المتحدة وهم ينسحبون من القاعة عندما صعد نتنياهو المنصة مؤلما للاحتلال وداعميه. ولا شك ان المسؤولين الأمريكيين شعروا بخيبة أمل عارمة، لأن ذلك أثبت فشل سياساتهم الهادفة لتطبيع الاحتلال وصهره في البوتقة السياسية للشرق الأوسط. وفات هؤلاء أن الظلم لا يدوم، وأن الظالم لا يفلح، وأن المظلوم لا يموت حتى لو توارى جسده.

إنها السنن الإلهية في الخلق حيث تدور الدوائر على الطغاة والمجرمين الذين يتوعدهم الله بالانتقام: إنّا من المجرمين منتقمون».

القدس العربي