مقالات مختارة

أسطـول الـصمـود: المقاومـة العالمية

إعلام فلسطيني
أسطول الصمود العالمي يعيد للذاكرة تجربة أسطول «مافي مرمرة» لعام 2010 لكن مع مخرجات مختلفة، فقد أسفر الهجوم الإسرائيلي على مرمرة عن استشهاد عشرة ناشطين من التابعية التركية، ما تسبب في انفجار أزمة دبلوماسية مع القيادة التركية، بالإضافة إلى أنّ المقارنة لا بد وأن تلحظ أنّ القرصنة الإسرائيلية على أسطول الصمود العالمي، بما في ذلك القرصنة التي تمّت على سفينة مادلين وحنظلة في منتصف العام الحالي، بما فيها من محاولات تخريب السفن وتعطيلها أو الاعتقالات التي تمت بحق الناشطين، تجنبت قتل النشطاء المتضامنين.

مرة أخرى، يتجه أسطول شعبي مدني عالمي إلى غزة في محاولة سلمية لكسْر الحصار البحري المفروض عليها منذ نحو عقدين، حاملاً على متنه مئات الناشطين من سبع وأربعين دولة على الأقل قياساً بجميع القوارب السابقة من الدول الأوروبية واللاتينية والإفريقية والعربية، ما جعل دولة الاحتلال أكثر حذراً في التعامل لجهة كمية الشراسة المستخدمة، خاصة أن العدد الأكبر من المشاركين من دول الاتحاد الأوروبي، خشية عواقب دبلوماسية وإعلامية معقدة أحدثتها العزلة الدولية وبلوغها الذروة في اجتماع الدورة الثمانين لهيئة الأمم المتحدة، بما يدل على أن الاحتلال لا يلتزم بمعيار ثابت، بل يعتمد سياسة الشراسة الانتقائية المتأثرة بجنسية المشاركين وقوة دولهم السياسية. لكن الأهم برأيي أن الحاضنة الشعبية المنتشرة، والمترامية الأطراف، وفرت الشرعية والحامي الرئيس لحملات التضامن وكسر الحصار.

وفي ملاحظة أخرى، ظهر البعد النسوي في المشاركة الواضحة والوازنة، والتي تتلاءم مع حقيقة أن النساء في غزة هن من القطاعات الأكثر تضرراً من الحصار، ومشاركة نساء بارزات في قيادة الأسطول وحملات التضامن بشكل عام، الأمر الذي أضاف بعداً جندرياً على المشهد التضامني يفضح الطابع التمييزي للعقاب الجماعي.

لقد انطلقت حملة كسر الحصار بعشرات القوارب من موانئ متوسطية نحو غزة، تم اعتراضها على مسافة تزيد على 70 ميلاً بحرياً من الشاطئ، مع احتجاز واعتقال المئات من المشاركين ينوف عددهم عن أربعمائة متضامن، ما ضاعف من مأزق دولة الاحتلال ومن الضغط الإعلامي والدبلوماسي عليها، وكان لتمكّن بعض السفن من الاقتراب من مياه غزة الإقليمية كالقارب «ميكانو - البيرة»، الذي تمت السيطرة عليه واعتقال أفراده بعد الهجوم الأول بيومين اثنين، ما من شأنه أن يوصل رسالة لقيادة الحملة حول ممكنات الوصول ومقاربة الغايات والأهداف من خلال زيادة القوارب المشاركة ومضاعفة الضغط الإعلامي والدبلوماسي.

مفاعيل اعتراض أسطول الصمود العالمي واعتقال أكثر من 473 ناشطاً وناشطة ينتمون إلى حوالى خمسين دولة، أجبر الحكومات الغربية والعربية على توضيح وتطوير ردودها وفعلها والإجابة عن الأسئلة المليونية: هل ستكتفي الدول بالتصريحات والمواقف اللفظية، أم أنها ستصعّد من متابعتها وتتحرك من أجل ضمان ممر إنساني بحري وتفعيل ضغطها في دخول المساعدات المختلفة إلى غزة؟ فالمعتقلون من إسبانيا وإيرلندا وإيطاليا والبرازيل وفرنسا والولايات المتحدة وألمانيا والمكسيك وكولمبيا وأستراليا وماليزيا، وغيرها، ولن تتوقف هذه الدول ما لم تلمس تغييراً حقيقياً على صعيد وقف حصار القطاع وتجويعه.
قد لا يُغيّر أسطول الصمود قواعد الاحتلال البربرية، لكنه حتماً أوصل رسالة بليغة بأن الحصار ليس قدراً، بل جريمة قابلة للكسر

وفي المقلب الآخر، هل ستساهم تجارب فك الحصار المادي عن غزة في حسم الجدل القانوني الدائر على الصعيد العالمي، بين من يعتبر الممارسات الإسرائيلية ضد الناشطين في اختراق الحصار عن طريق البحر إجراءً أمنياً، وبين من يرى فيه أحد أشكال القرصنة والاعتداء على فكرة الإنسانية وقيمها بالتوازي مع الاعتداء المستمر على القانون الدولي، خاصة أن عمليات الاعتراض والاعتقالات قد وقعت في المياه الدولية، ما يملي ربطها بالمسارات القانونية في المحكمة الجنائية الدولية، وبحملات المقاطعة، والمبادرات الدبلوماسية الجادة.

بالنتيجة، فشلت حملات التضامن عبر البحار في الوصول وإيصال الغذاء والدواء إلى المحاصرين والمُجَوَّعين في غزة، لكن رسالتها السياسية والإعلامية نجحت بجدارة بوضعها الحصار والتجويع وحرب الإبادة تحت مجهر الرأي العام العالمي، ومن المرجح استمرار تنظيم القوافل وتسييرها نحو غزة لدفع الزخم الشعبي المساند إلى تقديم نموذجه الإنقاذي للإسهام في مراكمة قوة الدفع نحو فتح المعابر على مصراعيها، ودخول المساعدات دون إعاقات ومنها الخلاص من مؤسسة غزة الأميركية، ومن المرجح تحول الأساطيل التضامنية إلى تقليد رمزي متكرر حتى لو لم تكسر الحصار عملياً، فقيمتها الحقيقية في فضح الاحتلال وعزله وكسر الصمت الدولي.

وآخر الكلام، قد لا يُغيّر أسطول الصمود قواعد الاحتلال البربرية، لكنه حتماً أوصل رسالة بليغة بأن الحصار ليس قدراً، بل جريمة قابلة للكسر كلما تكررت محاولات الشعوب الحرة لإحراج إسرائيل وتعريتها أمام العالم.

الأيام الفلسطينية